ثم إن الله تعالى بعد إقامة الحجج عليهم أزعج خواطر جماعتهم للنظر فيما دعاهم إليه، ونبههم عليه، بالآيات الباهرة، والمعجزات القاهرة، وأيده بالقرآن الذي تحدى به فصحاء قومه الذين بعث [ ص: 200 ] إليهم لما قالوا: إنه مفترى أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، أو سورة من مثله، وقد خاطبهم فيه بلغتهم، فعجزوا عن ذلك، مع إخباره لهم أنهم لا يأتون بمثله، ولو تظاهر على ذلك الإنس والجن، وقطع عليه السلام عذرهم به وعذر غيرهم، كما قطع موسى عليه السلام عذر السحرة وغيرهم في زمانه بالعصا التي فضحت سحرهم، وبان بما كان منها - لهم ولغيرهم - أن ذلك من فعل الله تعالى، وأن هذا ليس تبلغه قدرتهم، ولا تطمع فيه خواطرهم، وكما قطع عيسى عليه السلام عذر من كان في زمانه من الأطباء، الذين [قد] برعوا في معرفة العقاقير، وقوى ما في الحشائش، وقدر ما ينتهي إليه علاجهم، وتبلغه حيلهم، بإحياء الموتى بغير علاج، وإبراء الأكمه والأبرص، وغير ذلك مما [ ص: 201 ] بهرهم به، وأظهر لهم منه ما يعلمون بيسير الفكر أنه خارج عن قدرهم، وما يصلون إليه بحيلهم.
وكذلك قد وقطع به عذرهم، لرؤيتهم أنه خارج عما انتهت إليه فصاحتهم في لغاتهم، ونظموه في شعرهم، وبسطوه في خطبهم، وأوضح لجميع من بعث إليه من الفرق التي ذكرناها فساد ما كانوا عليه بحجج الله وبيناته، ودل على صحة ما دعاهم إليه ببراهين الله وآياته، حتى لم يبق لأحد منهم شبهة [فيه]، ولا احتيج مع ما كان منه عليه السلام في ذلك إلى زيادة من غيره، ولو لم يكن ذلك كذلك، لم يكن له عليه السلام حجة على جماعتهم، ولا كانت طاعته لازمة لهم، مع خصامهم وشدة عنادهم، ولكانوا قد احتجوا عليه بذلك، ودفعوه عما يوجب [ ص: 202 ] طاعتهم له، وقرعوه بتقصيره عن إقامة الحجة عليهم فيما يدعوهم إليه، مع طول تحديه لهم، وكثرة تبكيتهم، وطول مقامه فيهم، ولكنهم لم يجدوا إلى ذلك سبيلا، مع حرصهم عليه. أزاح نبينا صلى الله عليه وسلم بالقرآن - وما فيه من العجائب - علل الفصحاء من أهله،
وإذا كان هذا على ما ذكرناه، علم صحة ما ذهبنا إليه في دعوته عليه [الصلاة] والسلام إلى التوحيد، وإقامة الحجة على ذلك، وإيضاحه الطرق إليها. وقد كإطعامه الجماعة الكثيرة في المجاعة الشديدة من الطعام اليسير، وسقيهم الماء في العطش الشديد من الماء اليسير، وهو ينبع من بين أصابعه، حتى رووا ورويت مواشيهم، وكلام الذئب، وإخبار الذراع المشوية أنها مشوية، وانشقاق القمر، ومجيء الشجرة إليه عند دعائها [إليه] ورجوعها إلى مكانها بأمره لها، وإخباره لهم عليه [ ص: 203 ] السلام بما تجنه صدورهم، وما يغيبون به عنه من أخبارهم. أكد الله تعالى دلالة نبوته، بما كان من خاص آياته عليه السلام التي تنقض بها [عاداتهم]،
ثم دعاهم عليه السلام إلى معرفة الله عز وجل، وإلى طاعته فيما كلف تبليغه إليهم، بقوله تعالى: وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول [سورة التغابن: 12] ، وعرفهم أمر الله بإبلاغه ذلك، وما ضمنه له من عصمته منهم، بقوله تعالى: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس [سورة المائدة: 67] ، فعصمه الله منهم، مع كثرتهم وشدة بأسهم، وما كانوا عليه من شدة عنادهم وعداوتهم له، حتى بلغ رسالة ربه إليهم، مع [كثرتهم] ووحدته وتبري أهله منه، ومعاداة عشيرته، وقصد جميع المخالفين له حين سفه آراءهم فيما [ ص: 204 ] كانوا عليه من تعظيم أصنامهم، وعبادة النيران، وتعظيم الكواكب، وإنكار الربوبية، وغير ذلك مما كانوا عليه حتى بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وأوضح الحجة في فساد جميع ما نهاهم مما كانوا عليه، ودلهم على صحة جميع ما دعاهم إلى اعتقاده وفعله بحجج الله وبيناته، وأنه عليه السلام - لم يؤخر عنهم بيان شيء مما دعاهم إليه عن وقت تكليفهم فعله، لما يوجبه تأخير ذلك عنهم من سقوط تكليفه لهم. وإنما جوز فريق من أهل العلم تأخير البيان فيما أجمله الله من الأحكام قبل لزوم فعله لهم فأما تأخير ذلك عن وقت فعله فغير جائز عند كافتهم.
ومعلوم عند سائر العقلاء أن ما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إليه من واجهه من أمته من اعتقاد حدثهم ومعرفة المحدث لهم. وتوحيده ومعرفة أسمائه الحسنى، وما هو عليه من صفات نفسه وصفات [ ص: 205 ] فعله، وتصديقه فيما بلغهم من رسالته، مما لا يصح أن يؤخر عنهم البيان فيه، لأنه - عليه السلام - لم يجعل لهم فيما كلفهم من ذلك من مهلة، ولا أمرهم بفعله في الزمن المتراخي عنه، وإنما أمرهم بفعل ذلك على الفور، وإنما كان ذلك من قبل أنه لو أخر ذلك عنهم، لكان قد كلفهم ما لا سبيل لهم إلى فعله، وألزمهم ما لا طريق لهم إلى الطاعة فيه، وهذا غير جائز عليه، لما يقتضيه ذلك من بطلان أمره وسقوط طاعته.
ولهذا المعنى لم يوجد عن أحد من صحابته خلاف في شيء مما وقف عليه جماعتهم، ولا شك في شيء منه، ولا نقل عنهم كلام في شيء من ذلك، ولا زيادة على ما نبههم عليه من الحجج، بل مضوا جميعا على ذلك، وهم متفقون: لا يختلفون في حدثهم، ولا [ ص: 206 ] في توحيد المحدث لهم، وأسمائه وصفاته، وتسليم جميع المقادير إليه، والرضى فيها بأقسامه، لما قد ثلجت به صدورهم، وتبينوا وجوه الأدلة التي نبههم - عليه السلام عليها عند دعائه لهم إليها، وعرفوا به صدقه في جميع ما أخبرهم به، وإنما تكلفوا البحث والنظر فيما كلفوه من الاجتهاد في حوادث الأحكام عند نزولها بهم وحدوثها فيهم، وردها إلى معاني الأصول التي وقفهم عليها، ونبههم بالإشارة على ما فيها، فكان منهم [رحمة الله عليهم] في ذلك ما نقل إلينا عنهم من طريق الاجتهاد التي اتفقوا عليها، والطرق التي اختلفوا فيها، ولم يقلد بعضهم بعضا في جميع ما صاروا إليه من جميع ذلك، لما كلفوه من الاجتهاد وأمروا به، فأما ما دعاهم إليه [عليه السلام] من معرفة حدثهم والمعرفة [ ص: 207 ] بمحدثهم، ومعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وعدله وحكمته - فقد بين لهم وجوه الأدلة في جميعه، حتى ثلجت صدورهم به، واستغنوا عن استئناف الأدلة فيه، وبلغوا جميع ما وقفوا عليه من ذلك، واتفقوا عليه إلى من جاء بعدهم، فكان عذرهم فيما دعوا إليه من ذلك، مقطوعا بما نبههم عليه [النبي] صلى الله عليه وسلم من الأدلة على ذلك، وما شاهدوا من آياته الدالة على صدقه، وعذر سائر من تأخر عنه مقطوع بنقلهم ذلك إليهم، ونقل أهل كل زمان حجة على من بعدهم، من غير أن نحتاج - أرشدكم الله - في المعرفة لسائر ما دعينا إلى اعتقاده إلى استئناف أدلة غير الأدلة التي نبه النبي صلى الله عليه وسلم عليها، ودعا سائر أمته إلى تأملها، إذ كان من المستحيل أن يأتي في ذلك أحد بأهدى [ ص: 208 ] مما أتى به، أو يصلوا من ذلك إلى ما بعد عنهم عليه السلام.
وجميع ما اتفقوا عليه من الأصول مشهور في أهل النقل الذين عنوا بحفظ ذلك، وانقطعوا إلى الاحتياط فيه، والاجتهاد في طلب الطرق الصحيحة إليه: من المحدثين والفقهاء، يعلمه أكابرهم أصاغرهم، ويدرسونه صبيانهم في كتاتيبهم، لتقرر ذلك عندهم، وشهرته فيهم، واستغنائهم في العلم بصحة جميع ذلك، بالأدلة التي نبههم صاحب الشريعة عليها في وقت دعوته.