والمقتضى التام يستلزم مقتضاه، فتبين أن أحد الأمرين لازم: إما لكون الفطرة مستلزمة للمعرفة، وإلا استوى الكفر والإيمان بالنسبة إليها، وذلك ينفي مدحها.
وتلخيص النكتة أن يقال: المعرفة والإيمان بالنسبة إليها ممكن بلا ريب، فإما أن تكون هو موجبة مستلزمة له، وإما أن يكون ممكنا بالنسبة إليها، ليس بواجب لازم لها. فإن كان الثاني، لم يكن فرق بين الكفر والإيمان، إذ كلاهما ممكن بالنسبة إليها. فتبين أن المعرفة لازمة واجبة لها، إلا أن يعارضها معارض.
فإن قيل: ليست موجبة مستلزمة للمعرفة، ولكنها إليها أميل، مع قبولها للنكرة.
قيل: فحينئذ إذا لم تستلزم المعرفة، وجبت تارة وعدمت أخرى. وهي وحدها لا تحصلها، فلا تحصل إلا بشخص آخر كالأبوين، فيكون الإسلام كالتهويد والتنصير والتمجيس.
ومعلوم أن هذه الأنواع بعضها أبعد عن الفطرة من بعض كالتمجيس، [ ص: 448 ] ولكن مع ذلك لما لم تكن الفطرة مقتضية لشيء منها، أضيفت إلى السبب، فإن لم تكن الفطرة مقتضية للإسلام، صار نسبتها إلى ذلك كنسبة التهويد والتنصير إلى التمجيس، فوجب أن تذكر كما ذكر ذلك. وهذا كما أن الفطرة لو لم تقتض الأكل عند الجوع - مع القدرة عليه - لم يوجد الأكل إلا بسبب منفصل.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- شبه اللبن بالفطرة، لما عرض عليه الخمر واللبن واختار اللبن، فقال له جبريل: أصبت الفطرة، ولو أخذت الخمر لغوت أمتك.
والطفل مفطور على أن يختار شرب اللبن بنفسه، فإذا تمكن من الثدي لزم أن يرتضع لا محالة، فارتضاعه ضروري إذا لم يوجد معارض، وهو مولود على أن يرتضع، فكذلك هو مولود على أن يعرف الله، والمعرفة ضرورية له لا محالة إذا لم يوجد معارض.