وكثير ممن يقول بوجوب النظر وأنه أول الواجبات، أو أول الواجبات: المعرفة، يقولون مع ذلك: إن
nindex.php?page=treesubj&link=29426المعرفة لا تحصل إلا بالشرع، كما ذكر ذلك
أبو فرج المقدسي، وابنه
عبد الوهاب، وابن [ ص: 17 ] درباس، وغيرهم، كما قال من قال قبلهم: إنها لا تحصل إلا بالشرع.
وهؤلاء يريدون بالعقل: الغريزة ولوازمها من العلوم التي تحصل لعامة العقلاء، وأن ذلك بمجرده لا يوجب المعرفة، بل لا بد من أمر زائد على ذلك. كما قالوا في استدلالهم: إن المعرفة لو كانت بالعقل، لكان كل عاقل عارفا، ولما وجد جماعة من العقلاء كفارا، دل على أن المعرفة لم تثبت بالعقل.
ألا ترى أن ما يدرك بالضرورة لا يختلف أرباب النظر فيه؟ وهذا إنما ينفي المعرفة الإيمانية، وإلا فعامة العقلاء يقرون بالصانع.
وأيضا فهذا ينفي أن تكون المعرفة الإيمانية ضرورية. وهو أيضا يوجب أن الطرق العقلية لا تفصل موارد النزاع، ولا يحصل عليها الإجماع. وهو كما قالوا. فإن الطرق القياسية العقلية النظرية، وإن كان منها ما يفضي إلى العلم، فهي لا تفصل النزاع بين أهل الأرض. تارة لدقتها وغموضها، وتارة لأن النفوس قد تنازع في المقدمات الضرورية، كما ينازع أكثر النظار في كثير من المقدمات الضرورية.
ولهذا
nindex.php?page=treesubj&link=29613لم يأمر الله عند التنازع إلا بالرد إلى الكتب المنزلة.
قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=213كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه [سورة البقرة: 213]
[ ص: 18 ] ، فجعل الحاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه الكتاب المنزل من السماء.
وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=59يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [سورة النساء: 59]. فأمر عند التنازع بالرد إلى الله والرسول.
وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَقُولُ بِوُجُوبِ النَّظَرِ وَأَنَّهُ أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ، أَوْ أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ: الْمَعْرِفَةُ، يَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ: إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29426الْمَعْرِفَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالشَّرْعِ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ
أَبُو فَرَجٍ الْمَقْدِسِيُّ، وَابْنُهُ
عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَابْنُ [ ص: 17 ] دِرْبَاسٍ، وَغَيْرُهُمْ، كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ قَبْلَهُمْ: إِنَّهَا لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالشَّرْعِ.
وَهَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ بِالْعَقْلِ: الْغَرِيزَةَ وَلَوَازِمَهَا مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي تَحْصُلُ لِعَامَّةِ الْعُقَلَاءِ، وَأَنَّ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِهِ لَا يُوجِبُ الْمَعْرِفَةَ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى ذَلِكَ. كَمَا قَالُوا فِي اسْتِدْلَالِهِمْ: إِنَّ الْمَعْرِفَةَ لَوْ كَانَتْ بِالْعَقْلِ، لَكَانَ كُلُّ عَاقِلٍ عَارِفًا، وَلَمَا وُجِدَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ كُفَّارًا، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَمْ تَثْبُتْ بِالْعَقْلِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يُدْرَكُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَخْتَلِفُ أَرْبَابُ النَّظَرِ فِيهِ؟ وَهَذَا إِنَّمَا يَنْفِي الْمَعْرِفَةَ الْإِيمَانِيَّةَ، وَإِلَّا فَعَامَّةُ الْعُقَلَاءِ يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ.
وَأَيْضًا فَهَذَا يَنْفِي أَنْ تَكُونَ الْمَعْرِفَةُ الْإِيمَانِيَّةُ ضَرُورِيَّةً. وَهُوَ أَيْضًا يُوجِبُ أَنَّ الطُّرُقَ الْعَقْلِيَّةَ لَا تَفْصِلُ مَوَارِدَ النِّزَاعِ، وَلَا يَحْصُلُ عَلَيْهَا الْإِجْمَاعُ. وَهُوَ كَمَا قَالُوا. فَإِنَّ الطُّرُقَ الْقِيَاسِيَّةَ الْعَقْلِيَّةَ النَّظَرِيَّةَ، وَإِنْ كَانَ مِنْهَا مَا يُفْضِي إِلَى الْعِلْمِ، فَهِيَ لَا تَفْصِلُ النِّزَاعَ بَيْنَ أَهْلِ الْأَرْضِ. تَارَةً لِدِقَّتِهَا وَغُمُوضِهَا، وَتَارَةً لِأَنَّ النُّفُوسَ قَدْ تُنَازِعُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ الضَّرُورِيَّةِ، كَمَا يُنَازِعُ أَكْثَرُ النُّظَّارِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ الضَّرُورِيَّةِ.
وَلِهَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=29613لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ عِنْدَ التَّنَازُعِ إِلَّا بِالرَّدِّ إِلَى الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ.
قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=213كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسُ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [سُورَةَ الْبَقَرَةِ: 213]
[ ص: 18 ] ، فَجَعَلَ الْحَاكِمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ الْكِتَابَ الْمُنَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ.
وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=59يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهَ وَالرَّسُولِ [سُورَةَ النِّسَاءِ: 59]. فَأَمَرَ عِنْدَ التَّنَازُعِ بِالرَّدِّ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ.