وتسمية هؤلاء للعقل حاسة من الحواس هو مما نازعهم فيه طوائف من أصحابهم وغيرهم،
كأبي الحسن بن الزاغوني وغيره. والنزاع في ذلك عند التحقيق يرجع إلى اللفظ؛ ولذلك قالوا:
nindex.php?page=treesubj&link=28446_29620لو كان العقل علة في معرفة الباري، لوجب أن تحصل المعرفة بوجوده، وتعدم بعدمه. كالمنظورات تدرك بوجود البصر، وتعدم معرفتها ونظرها بعدم البصر. وكذلك المسموعات وسائر المحسوسات.
[ ص: 19 ]
ولما رأينا المسلم يرتد عن الإسلام، مع وجود عقله الذي كان به قبل الارتداد مؤمنا، علمنا أن المعرفة حصلت له بغير ذلك. وكذلك نرى المؤمن بالله يذهب عقله، ويحكم بجنونه، وهو باق على المعرفة، مقر بالتوحيد، عارف بالله. وعقلاء كثيرون يكفرون بالله ويشركون به. فدل على أن المعرفة مستفادة بمعنى غير العقل.
وهذا الكلام يقتضي أن مجرد الغريزة ولوازمها لا تستلزم المعرفة الواجبة على العباد. وهذا مما لا ينازع فيه أحد، فإن من يقول: إن المعرفة تحصل بالعقل، يقول: إن أصل الإقرار بالصانع يحصل بعلوم عقلية، ولكن ليس ذلك هو جميع المعرفة الواجبة، ولا بمجرد ذلك يصير مؤمنا.
وهذا العقل هو العقل الذي هو شرط في الأمر والنهي. وقد يراد بالعقل ما تحصل به النجاة. كما قال تعالى عن أهل النار:
nindex.php?page=tafseer&surano=67&ayano=10وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير [سورة الملك: 10].
وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=44أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا [سورة الفرقان: 44].
وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=2إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون [سورة يوسف: 2].
وقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=43وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون [سورة العنكبوت: 43]، وأمثال ذلك في القرآن.
واحتجوا على أن المعرفة لا تحصل بمجرد العقل، بقوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=26وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله [سورة الأحقاف: 26].
[ ص: 20 ]
وهذه الآية وأمثالها تدل على أن
nindex.php?page=treesubj&link=29620_28446السمع والأبصار والأفئدة لا تنفع صاحبها مع جحده بآيات الله. فتبين أن العقل الذي هو مناط التكليف لا يحصل بمجرده الإيمان النافع، والمعرفة المنجية من عذاب الله. وهذا العقل شرط في العلم والتكليف لا موجب له.
احتجوا أيضا بما ذكروه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«تعلموا العلم، فإن تعليمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، به يعرف الله ويعبد، وبه يمجد الله ويوحد. هو إمام العمل، والعمل تابعه. يرفع الله بالعلم أقواما فيجعلهم للناس قادة وأئمة يقتدى بهم، وينتهى إلى رأيهم». [ ص: 21 ]
قالوا: فوجه الدليل قوله: (به يعرف الله ويعبد). وهذا الكلام معروف عن
nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ بن جبل رضي الله عنه، رووه عنه بالأسانيد المعروفة. وهو كلام حسن، ولكن روايته مرفوعا فيه نظر. وفيه: أن الله يعرف ويعبد بالعلم، لا بمجرد الغريزة العقلية. وهذا صحيح لا ينازع فيه من يتصور ما يقول.
ومن يقول: إن المعرفة تحصل بالعقل، يقول: إنما تحصل بعلوم عقلية، أي يمكن معرفة صحتها بنظر العقل، لا يقول: إن نفس العقل -الذي هو الغريزة ولوازمها- يوجب حصول المعرفة والعبادة.
وَتَسْمِيَةُ هَؤُلَاءِ لِلْعَقْلِ حَاسَّةً مِنَ الْحَوَاسِّ هُوَ مِمَّا نَازَعَهُمْ فِيهِ طَوَائِفُ مِنْ أَصْحَابِهِمْ وَغَيْرِهِمْ،
كَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الزَّاغُونِيِّ وَغَيْرِهِ. وَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ يَرْجِعُ إِلَى اللَّفْظِ؛ وَلِذَلِكَ قَالُوا:
nindex.php?page=treesubj&link=28446_29620لَوْ كَانَ الْعَقْلُ عِلَّةً فِي مَعْرِفَةِ الْبَارِي، لَوَجَبَ أَنْ تَحْصُلَ الْمَعْرِفَةُ بِوُجُودِهِ، وَتُعْدَمَ بِعَدَمِهِ. كَالْمَنْظُورَاتِ تُدْرَكُ بِوُجُودِ الْبَصَرِ، وَتُعْدَمُ مَعْرِفَتُهَا وَنَظَرُهَا بِعَدَمِ الْبَصَرِ. وَكَذَلِكَ الَمْسْمُوعَاتُ وَسَائِرُ الْمَحْسُوسَاتِ.
[ ص: 19 ]
وَلَمَّا رَأَيْنَا الْمُسْلِمَ يَرْتَدُّ عَنِ الْإِسْلَامِ، مَعَ وُجُودِ عَقْلِهِ الَّذِي كَانَ بِهِ قَبْلَ الِارْتِدَادِ مُؤْمِنًا، عَلِمْنَا أَنَّ الْمَعْرِفَةَ حَصَلَتْ لَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ نَرَى الْمُؤْمِنَ بِاللَّهِ يَذْهَبُ عَقْلُهُ، وَيُحْكَمُ بِجُنُونِهِ، وَهُوَ بَاقٍ عَلَى الْمَعْرِفَةِ، مُقِرٌّ بِالتَّوْحِيدِ، عَارِفٌ بِاللَّهِ. وَعُقَلَاءُ كَثِيرُونَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَيُشْرِكُونَ بِهِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعْرِفَةَ مُسْتَفَادَةٌ بِمَعْنًى غَيْرِ الْعَقْلِ.
وَهَذَا الْكَلَامُ يَقْتَضِي أَنَّ مُجَرَّدَ الْغَرِيزَةِ وَلَوَازِمَهَا لَا تَسْتَلْزِمُ الْمَعْرِفَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى الْعِبَادِ. وَهَذَا مِمَّا لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ، فَإِنَّ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْمَعْرِفَةَ تَحْصُلُ بِالْعَقْلِ، يَقُولُ: إِنَّ أَصْلَ الْإِقْرَارِ بِالصَّانِعِ يَحْصُلُ بِعُلُومٍ عَقْلِيَّةٍ، وَلَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ هُوَ جَمِيعَ الْمَعْرِفَةِ الْوَاجِبَةِ، وَلَا بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ يَصِيرُ مُؤْمِنًا.
وَهَذَا الْعَقْلُ هُوَ الْعَقْلُ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَقَدْ يُرَادُ بِالْعَقْلِ مَا تَحْصُلُ بِهِ النَّجَاةُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ النَّارِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=67&ayano=10وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [سُورَةَ الْمُلْكِ: 10].
وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=44أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا [سُورَةَ الْفُرْقَانِ: 44].
وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=2إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سُورَةَ يُوسُفَ: 2].
وَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=43وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ [سُورَةَ الْعَنْكَبُوتِ: 43]، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ.
وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=26وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [سُورَةَ الْأَحْقَافِ: 26].
[ ص: 20 ]
وَهَذِهِ الْآيَةُ وَأَمْثَالُهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29620_28446السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَا تَنْفَعُ صَاحِبَهَا مَعَ جَحْدِهِ بِآيَاتِ اللَّهِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْلَ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِهِ الْإِيمَانُ النَّافِعُ، وَالْمَعْرِفَةُ الْمُنْجِيَةُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَهَذَا الْعَقْلُ شَرْطٌ فِي الْعِلْمِ وَالتَّكْلِيفِ لَا مُوجِبٌ لَهُ.
احْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا ذَكَرُوهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
«تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ، فَإِنَّ تَعْلِيمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُدَارَسَتَهُ تَسْبِيحٌ، وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ صِدْقَةٌ، بِهِ يُعْرَفُ اللَّهُ وَيُعْبَدُ، وَبِهِ يُمَجَّدُ اللَّهُ وَيُوَحَّدُ. هُوَ إِمَامُ الْعَمَلِ، وَالْعَمَلُ تَابِعُهُ. يَرْفَعُ اللَّهُ بِالْعِلْمِ أَقْوَامًا فَيَجْعَلُهُمْ لِلنَّاسِ قَادَةً وَأَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهِمْ، وَيُنْتَهَى إِلَى رَأْيِهِمْ». [ ص: 21 ]
قَالُوا: فَوَجْهُ الدَّلِيلِ قَوْلُهُ: (بِهِ يُعْرَفُ اللَّهُ وَيُعْبَدُ). وَهَذَا الْكَلَامُ مَعْرُوفٌ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=32مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، رَوَوْهُ عَنْهُ بِالْأَسَانِيدِ الْمَعْرُوفَةِ. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ، وَلَكِنَّ رِوَايَتَهُ مَرْفُوعًا فِيهِ نَظَرٌ. وَفِيهِ: أَنَّ اللَّهَ يُعْرَفُ وَيُعْبَدُ بِالْعِلْمِ، لَا بِمُجَرَّدِ الْغَرِيزَةِ الْعَقْلِيَّةِ. وَهَذَا صَحِيحٌ لَا يُنَازِعُ فِيهِ مَنْ يَتَصَوَّرُ مَا يَقُولُ.
وَمَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْمَعْرِفَةَ تَحْصُلُ بِالْعَقْلِ، يَقُولُ: إِنَّمَا تَحْصُلُ بِعُلُومٍ عَقْلِيَّةٍ، أَيْ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ صِحَّتِهَا بِنَظَرِ الْعَقْلِ، لَا يَقُولُ: إِنَّ نَفْسَ الْعَقْلِ -الَّذِي هُوَ الْغَرِيزَةُ وَلَوَازِمُهَا- يُوجِبُ حُصُولَ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِبَادَةِ.