ثم قال: (قالت الفلاسفة: الجواب عما ذكروه أولا من وجوه ثلاثة.
الأول: لما بينا في باب الوجود: أن ما لا يكون ثابتا في نفسه، لا يمكن أن يكون موصوفا بالأوصاف الثبوتية). [ ص: 201 ] المحكوم عليه بالزيادة والنقصان: إما كل الحوادث، وإما كل واحد واحد منهما، والأول محال؛ لأن الكل من حيث هو كل غير موجود لا في الخارج ولا في الذهن على ما بيناه في باب اللانهاية، وما لا يكون موجودا امتنع أن يكون موصوفا بالأوصاف الثبوتية، من الزيادة والنقصان وغيرهما؛
قلت: هذا كقولهم: الحركة غير موجودة، والصوت غير موجود. والكلام غير موجود. وهذا لفظ مجمل، فإن أريد بالموجود ما تقترن أجزاؤه في زمن واحد، فهذا غير موجود. وأما إن أريد ما هو أعم من ذلك، بحيث يدخل فيه ما يوجد شيئا بعد شيء، فهذا كله موجود، وهو من حيث هو موجود شيئا بعد شيء، لا موجود على سبيل الاقتران).
الثاني: (أنا بينا في باب تناهي الأجسام أن الشيء إذا كان متناهيا من جانب، وغير متناه من جانب آخر، فإذا انضم إلى الجانب المتناهي شيء، حتى ازداد هذا الجانب، فالزيادة إنما حصلت في الجانب المتناهي لا في الجانب الآخر، فلا يلزم أن يصير الجانب الآخر متناهيا، إلا أن يقال: إنا نفرض في الذهن انطباق الجانب المتناهي من الزائد على الجانب المتناهي من الناقص، فلا بد وأن يظهر التفاوت من الجانب الآخر.
ولكن إذا سلمنا لهم صحة هذا التطبيق، فإنه لا يصح تطبيق طرف الزائد على طرف الناقص، إلا بوقوع فضلة عددية من الزائد، ومع ذلك فمن المحتمل أن يمتد الزائد مع الناقص أبدا، من غير أن ينقطع الناقص، بل يبقى أبدا مع الزائد بتلك الفضلة العددية.
الثالث: معارضة ذلك بأمور أربعة: أولها: صحة حدوث [ ص: 202 ] الحوادث من الأزل إلى الطوفان، أقل من صحتها من الأزل إلى زماننا هذا، مع أنه لا يلزم تناهي الصحة.
وثانيها: صحة حدوث الحوادث من الطوفان إلى الأبد، أكثر من صحة حدوثها من الآن إلى الأبد، مع أنه لا يلزم تناهي هذه الصحة في جانب الأبد.
وثالثها: تضعيف الألف مرارا غير متناهية، أقل من تضعيف الألفين مرارا غير متناهية.
ورابعها: معلومات الله أكثر من مقدوراته مع أن تلك غير متناهية.
قال: (والجواب عما ذكروه ثانيا -يعني الحجة الثانية- أنه إما أن يعني بالتوقف المذكور أن يكون أمران معدومان في وقت، وشرط وجود أحدهما في المستقبل أن يوجد المعدوم الآخر قبله، فإن كان الأمر على هذا، فقد وجدنا أمرا معدوما، ومن شرط وجوده أن توجد أمور بغير نهاية في ترتيبها وكلها معدومة، فيبتدئ في الوجود من وقت [ ص: 203 ] ما اعتبر هذا الاشتراط، فالذي يكون كذلك كان ممتنع الحدوث في الوجود، وأما أن يعني بهذا التوقف أنه لا يوجد هذا الحادث إلا وقد وجد قبله ما لا نهاية له، ثم ادعى أن التوقف بهذا المعنى محال، فهذا هو نفس المطلوب، فإن النزاع ما وقع إلا فيه.
والجواب عما ذكروه ثالثا أنه لا يلزم من ثبوت الأول لكل واحد، ثبوت الأول للكل؛ لأن من الجائز أن يكون حكم الكل مخالفا لحكم الآحاد؛ لأن كل واحد من آحاد العشرة ليس بعشرة والكل عشرة، وكل واحد من الأجزاء ليس بكل، مع أن كلها كل، وكل واحد من الحوادث اليومية غير مستغرق لكل اليوم، مع أن مجموعها مستغرق لكل اليوم، بل نقول: إن الكل من حيث هو كل يستحيل أن يكون مساويا لجزئه من حيث هو جزء، وإلا لم يكن أحدهما كلا والآخر جزءا. وأما المثال الواحد فلا يكفي؛ لأنا لا ندعي أن حكم الكلية يجب أن يكون مخالفا لحكم الآحاد، حتى يضرنا المثال الواحد، بل نقول: إن ذلك التساوي قد يكون وقد لا يكون، والأمر فيه موقوف على البرهان).
قال: (والجواب عما ذكروه رابعا أن انتهاء الحوادث إلينا يقتضي ثبوت النهاية لها من الجانب الذي يلينا، وثبوت النهاية من أحد [ ص: 204 ] الجانبين لا ينافي أن لا نهاية لها من الجانب الآخر، والدليل عليه الصحة، فإنه لا بداية لها، مع أنها قد تناهت إلينا، وكذلك حركات أهل الجنة لا نهاية لها، مع أنها في جانب البداية لها نهاية).
قال: (والجواب عما ما ذكروه خامسا وهو قولهم: الأزل هل وجد فيه حادث أم لا؟ فنقول الأزل ليس حالة معينة، بل هو عبارة عن نفي الأولية، فالحادث بالزمان الذي هو عبارة عن الشيء المسبوق بالعدم، يمتنع وقوعه في الأزل، فأما قولهم: لما لم يقع شيء من الحوادث في الأزل؟ فقد أشرنا إلى حالة لم يكن شيء من الحوادث هناك موجودا، فنقول: قد بينا أن الأزل ليس وقتا مخصوصا، حتى يقال بأن ذلك الوقت قد خلا عن الحوادث بل الأزل عبارة عن نفي الأولية، فقولنا: الأزل لم يوجد فيه شيء من الحوادث، معناه: أن نفي الأولية لم يوجد فيه شيء من الحوادث، أي: كل واحد من الحوادث مسبوق بالعدم، فلم قلتم: إنه لما كان واحد منها مسبوقا بالعدم، وجب أن يكون الكل كذلك، فإن النزاع ما وقع إلا فيه.
والذي يحسم مادة هذا الوهم معارضته بالصحة، فنقول: صحة [ ص: 205 ] حدوث الحوادث: هل كانت حاصلة في الأزل أم لا؟ فإن كانت حاصلة في الأزل أمكن حدوث حادث أزلي، وذلك محال، وإن لم تكن فللصحة مبدأ أول، وهو محال. ولما لم يكن هذا الكلام قادحا في أن الصحة لا بداية لها، لم يكن قادحا في هذه المسألة).
قال: والجواب عما ذكروه سادسا، وهو أن ما دخل في الوجود فقد حصره الوجود، فهو أن المراد بالحصر أن يكون للشيء طرف، ونحن نسلم أن الحوادث محصورة من الجانب الذي يلينا، أما لم قلتم: إنه يلزم من ذلك أن تكون محصورة من الطرف الذي لا يلينا، ثم نعارض ذلك بصحة حدوث الحوادث؟
والجواب عما ذكروه سابعا من أنه لا يلزم أن لا ينفك الجسم عن حدوث الحوادث وعدمها، فنقول: إن عنيتم به أنه يكون موصوفا بوجود كل الحوادث، ويكون موصوفا بعدمها معا، فذلك باطل؛ لأن الحوادث ليس لكلها وجود، حتى يكون الجسم موصوفا به وإن عنيتم به أنه في كل واحد من الأزمان يكون موصوفا بواحد من تلك [ ص: 206 ] الحوادث، فهو في ذلك الوقت لا يكون موصوفا بعدم ذلك الحادث، حتى يلزم التناقض، بل يكون موصوفا بعدم سائر الحوادث، والتناقض إنما يلزم إذا كان الشيء موصوفا بالحادث المعين، وبعدم ذلك الحادث معا، فأما أن يكون في ذلك الوقت موصوفا بوجوده وبعدم غيره، فأي تناقض فيه؟!
قال: هذا جملة ما قيل في هذه المسألة.