[ ص: 338 ] قلت: المعلوم بنفسه أنه لا يكون المفعول الواحد بعينه فعلا لفاعلين على سبيل الاستقلال ولا التعاون، ولا يكون المعلول الواحد بالعين معلولا لعلتين مستقلتين ولا متشاركتين، وهذا مما لا ينازع فيه أحد من العقلاء بعد تصوره، فإنه إذا كان أحدهما مستقلا به، لزم أن يحصل جميع المفعول المعلول به وحده، فلو قدر أن الآخر كذلك، للزم أن يكون كل منهما فعله كله وحده، وفعله له وحده ينفي أن يكون له شريك فيه، فضلا عن آخر مستقل، فيلزم الجمع بين النقيضين: إثبات استقلال أحدهما ونفي استقلاله، وإثبات تفرده به ونفي تفرده به، وهذا جمع بين النقيضين.
ومن المعلوم بنفسه أن عين المفعول، الذي يفعله فاعل، لا يشركه فيه غيره، كما لا يستقل به، فإنه لو شرك فيه غيره، لم يك مفعوله، بل كان بعضه مفعوله، وكان مفعولا له ولغيره، فيمتنع وقوع الاشتراك فيما هو مفعول لواحد.
ولهذا كان المعقول من الاشتراك هو التعاون، بأن يفعل كل منهما غير ما يفعله الآخر، كالمتعاونين على البناء: هذا ينقل اللبن، وهذا يضعه. أو على حمل الخشبة: هذا يحمل جانبا، وهذا يحمل جانبا.
والمخلوقات جميعها يعاون بعضها بعضا في الأفعال، فليس في المخلوقات ما يستقل بمفعول ينفرد به، بل لا بد له من مشارك معاون مستغن عنه، ثم مع احتياجه إلى المشارك له من يعارضه ويعوقه عن الفعل، فلا بد له من مانع يمنع التعارض المعوق. [ ص: 339 ]
وهذا في كل ما يقال إنه مؤثر واحد يصدر عنه وحده شيء أصلا. فلا واحد يفعل وحده إلا الله سبحانه.
وهذا مما يبين ضلال هؤلاء المتفلسفة القائلين بأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد. وجعلوا هذه قضية كلية ليدرجوا فيها واجب الوجود. ويقولوا: لم يصدر عنه إلا واحد بسيط، وهو ما يسمونه العقل.
فإن هذا القول، وإن كان فساده معلوما من وجوه كثيرة، لكن المقصود هنا أن هذه القضية الكلية لا تصدق في موضع واحد غير محل النزاع. ومحل النزاع علم فيه أن الفاعل واحد، لكن لم يعلم فيه أنه لا يفعل إلا واحدا.
وأيضا فالوحدانية التي يستحق الرب أن يوصف بها، ليست هي الوحدة التي يدعونها، فإن تلك الوحدة التي يدعونها لا تصدق إلا على الممتنع الذي لا يمكن وجوده إلا في الذهن لا في الخارج؛ إذ يثبتون وجودا مطلقا أو مشروطا بسلب الأمور الثبوتية أو الثبوتية والعدمية. وهذا لا يكون إلا في الأذهان، كما قد قرروا ذلك في منطقهم، وهو معلوم بصريح العقل، وقد بين هذا في موضعه.
والمقصود هنا أنهم لا يعلمون واحدا يصدر عنه شيء غير الله تعالى. فإذا قالوا: الشمس يصدر عنها الشعاع، فالشعاع لا يحصل إلا مع وجود جسم قابل له ينعكس عليه الشعاع، فصار لوجوده سببان: الشمس، [ ص: 340 ] والجسم المقابل لها. ثم له مانع، وهو الحجب التي تحول بين الشمس وبين ما يقبل الشعاع.
وهكذا النور الخارج من السراج، ونحوه من النيران، لا يحصل إلا بالنار، وبجسم يقبل انعكاس الشعاع عليه، وارتفاع الحجب الحائلة بينهما.
وكذلك تسخين النار، وتبريد الماء، وما يحصل بالخبز والماء من شبع وري، وسائر الآثار الحاصلة بالأغذية والأدوية وغير ذلك، فإنه لا بد من النار، ومن جسم يقبل أثرها، وإلا فالياقوت والسمندل ونحو ذلك لا تحرقه النار. وكذلك الغذاء لا ينفع إلا بقوة قابلة لأثره في الجسم، وأمثال ذلك كثيرة.
وكذلك الفاعل المختار كالإنسان، فإن حركته الحاصلة باختياره، لا تحصل إلا بقوة من أعضائه يحتاج إليها، وليس هو الفاعل لأعضائه ولا لقواها، فهو محتاج في فعله إلى أسباب خارجة عن قدرته، وقد يحصل في بدنه من العوائق ما يعوقه عن الحركة. هذا فعله في نفسه، فأما الأمور المنفصلة عنه التي يقال: إنها متولدة عن فعله، فمن الناس من يقول: ليست مفعولة له بحال، بل هي مفعولة لله تعالى، كما يقول ذلك كثير من متكلمي المثبتين للقدر.
ومنهم من يقول: بل هو مفعول له على طريق التولد، كما يقوله من يقوله من المعتزلة ويحكى عن بعضهم: أنه قال: لا فاعل لها بحال.
وحقيقة الأمر أن تلك قد اشترك فيها الإنسان والسبب المنفصل [ ص: 341 ] عنه، فإنه إذا ضرب بحجر فقد فعل الحذف، ووصول الحجر إلى منتهاه حصل بهذا السبب، وبسبب آخر من الحجر والهواء.
وكذلك الشبع والري حصل بسبب أكله وشربه، الذي هو فعله، وبسبب ما في الطعام والشراب من قوة التغذية، وما في بدنه من قوة القبول لذلك، والله خالق هذا كله.
وهذا مما يبين أنه ليس في المخلوقات ما يستقل بمفعول أصلا، فالقلب الذي هو ملك البدن، وإن كان منه تصدر الإرادات المحركة للأعضاء، فلا يستقل بتحريك، إلا بمشاركة الأعضاء وقواها كما تقدم.
وولاة الأمور، المدبرون للمدائن والجيوش، لا يستقل أحدهم بمفعول، إن لم يكن له من يعينه عليه، وإلا فقوله وعمله أعراض قائمة به لا تجاوزه، وكل ما يصدر خارجا عنه فمتوقف على أسباب أخرى خارجة عن محل قدرته وفعله.
وهذا كله مما يبين عجز كل مخلوق عن الاستقلال بمفعول ما، فلا يكون شيء من المخلوقات ربا لشيء من المخلوقات ربوبية مطلقة أصلا؛ إذ رب الشيء من يربه مطلقا من جميع جهاته، وليس هذا إلا لله رب العالمين.
ولهذا منع في شريعتنا من إضافة الرب إلى المكلفين، كما قال صلى الله عليه وسلم: [ ص: 342 ] «لا يقل أحدكم: اسق ربك أطعم ربك».
بخلاف إضافته إلى غير المكلفين، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن عوف الجشمي: وقولهم: رب الثوب والدار. «أرب إبل أنت أم رب شاء؟»
فإنه ليس في هذه الإضافة ما يقتضي عبادة هذه الأمور لغير الله، فإن هذا لا يمكن فيها، فإن الله فطرها على أمر لا يتغير، بخلاف المكلفين، فإنهم يمكن أن يعبدوا غير الله، كما عبد المشركون به من الجن والإنس غيره، فمنع من الإضافة في حقهم تحقيقا للتوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه. ولهذا لم يكن شيء يستلزم وجود المفعولات إلا مشيئة الله وحده، فما شاء الله كان، وإن لم يشأ ذلك غيره، وما لم يشأ لا يكون، ولو شاءه جميع الخلق.