وأما [ ص: 346 ] الفلاسفة القائلون بقدم العالم، فلازم قولهم أن الحوادث جميعها ليس لها فاعل. ثم هم يجعلون بعض مبدعات الرب هي الفاعلة لما سواه، كما يزعمون مثل ذلك في العقل.
ومشركو العرب كانوا خيرا في التوحيد من هؤلاء، فإن هؤلاء غايتهم أن يثبتوا أسبابا لبعض الموجودات. لكن الأسباب لا تستقل، بل تفتقر إلى مشارك، وانتفاء معارض، وقد يثبتون أسبابا وعللا لا حقيقة لها، كالعقول التي يزعمون أنها أبدعت ما سواها.
وأما المجوس الثنوية فهم أشهر الناس قولا بإلهين، لكن القوم متفقون على أن الإله الخير المحمود هو النور الفاعل للخيرات، وأما الظلمة -التي هي فاعل الشرور- فلهم فيها قولان: أحدهما: أنه محدث حدث عن فكرة رديئة من النور. وعلى هذا فتكون الظلمة مفعولا للنور. لكنهم جهال أرادوا تنزيه الرب عن فعل شر معين، فجعلوه فاعلا لأصل الشر، ووصفوه بالفكرة الرديئة التي هي من أعظم النقائص، وجعلوها سببا لحدوث أصل الشر.
والقول الآخر قولهم: إن الظلمة قديمة كالنور.
فهؤلاء أثبتوا قديمين، لكن لم يجعلوهما متماثلين ولا مشتركين في الفعل، بل يمدحون أحدهما ويذمون الآخر.
ولذلك من قال من الملاحدة كمحمد بن زكريا الرازي الطبيب [ ص: 347 ] وأمثاله الذين اتبعوا قول طائفة من الملاحدة الفلاسفة القائلين بالقدماء الخمسة التي هي: واجب الوجود، والنفس، والهيولى، والدهر، والخلاء، وأن سبب حدوث العالم أن النفس تعلقت بالهيولى، فلم يمكن واجب الوجود أن يخلصها منها حتى تمتزج بالعالم، فتذوق ما فيه من الشرور.
وسبب قوله هذا القول أنه كان يقول بحدوث العالم، وطولب بسبب حدوثه، فأثبت نوعا من الحركات سماها الحركة الفلتية، وشبهها بالريح والصوت الذي يخرج من الإنسان بغير اختياره، وجعل عشق النفس للهيولى من هذا الباب، وظهر للناس جهله في إلحاده، فإن هذه الحركة على أي وجه كانت حادثة بعد أن لم تكن، فيسأل عن سبب حدوثها، كما يسأل عن سبب حدوث حركة أخرى، فلم يتخلص بهذا الجهل من السؤال.
والمقصود أن كثيرا من أهل الشرك والضلال قد يضيف وجود بعض الممكنات، أو حدوث بعض الحوادث، إلى غير الله. وكل من قال هذا لزمه حدوث الحادث بلا سبب. وهم مع شركهم، وما يلزمهم من نوع تعطيل في الربوبية، لا يثبتون مع الله شريكا مساويا له في أفعاله ولا في صفاته. [ ص: 348 ]
وإما إثبات الأسباب التي لا تستقل بالأثر، بل تفتقر إلى مشارك معاون، وانتفاء معارض مانع، وجعلها مخلوقة لله -فهذا هو الواقع الذي أخبر به القرآن، ودل عليه العيان والبرهان. وهو من دلائل التوحيد وآياته، ليس من الشرك بسبيل، فإن ذلك مما يبين أنه ليس في المخلوقات ما يستقل بمفعول من المفعولات.