وكذلك الإدراك، فإنه عرض قائم بالمدرك. والمدرك نفسه يكون عينا قائمة بنفسها، سواء كان مرئيا أو معلوما بالقلب.
وأما قدره، فلأن مقدار المرئي يختلف باختلاف المرآة، فإذا [ ص: 107 ] كانت كبيرة رئي كبيرا، وإذا كانت صغيرة رئي صغيرا، وهو على التقديرين يشبه الصورة الموجودة في الخارج.
فكذلك إذا قيل: إن المدرك يتمثل في المدرك، لم يلزم أن يكون قدره في المدرك مثل قدره في نفسه.
ولهذا يقال: للشيء وجود في الأعيان، وفي الأذهان، وفي اللسان، وفي البنان، ووجود عيني، وعلمي ولفظي، ورسمي.
ومعلوم أن مطابقة العلمي للعيني، هي مطابقة العلم للمعلوم، ليس كمطابقة الموجود في الخارج لمماثله الموجود في الخارج.
فإن هذا لا يقوله عاقل، بل العاقل يجد تفرقة ضرورية بين ما تمثله في نفسه، وبين الحقائق الموجودة في الخارج.
ومن أظهر ذلك الخيال، فإنه يتخيل ما رآه بعد مغيبه عنه، وفي حال تغميض عينيه ونومه، ويعلم قطعا أنه خياله ومثاله، وأنه مشابه له، ويعلم قطعا أن ذلك المثال في الباطن لا في الخارج، سواء قيل: إنه منطبع في النفس، أو في جزء من البدن، أو فيهما، وسواء قيل: إن النفس تدركه، أو قيل: إن المدرك له هو البدن.
فعلى كل تقدير يعلم الناس فرقا ضروريا بين حقيقة ذلك المثال، وبين حقيقة الموجود في الخارج، وأنه لا يماثله: لا في ذاته، ولا [ ص: 108 ] صفاته، ولا مقداره، ولكن يشابهه ويحكيه نوع مشابهة وحكاية، والمشابهة من وجه لا تقتضي المماثلة في الذات والصفات والمقدار.
وهذا المثال الإدراكي لا يمتنع في اجتماع ما هما ضدان في الخارج، بل يجتمع فيه مثال السواد والبياض، ويجتمع فيه المثلان كالسوادين، ويجتمع فيه مثال وجود الشيء وعدمه، فيجتمع فيه تقدير الوجود والعدم، لا يمتنع فيه اجتماع مثالي النقيضين، كما امتنع اجتماع النقيضين في الخارج، ويتمثل فيه الموجود والمعدوم والممتنع، وما له وجود في الخارج، وما ليس له وجود في الخارج. فهو أوسع بهذا الاعتبار من الوجود الخارجي.
لكن تلك الأمور مثل خيالية، ليست حقائق موجودة في أنفسها. وقد يشتبه على بعض الناس ما يتخيله فيه، فيظنه موجودا في الخارج، وطائفة من فلاسفة الصوفية، يسمي هذا أرض الحقيقة، ويذكر فيه من العوالم وأنواعها وأقدارها ما يطول وصفه. كابن عربي،
وذلك أن الخيال لا حد له، بل تخيلات النفوس لما ليس له وجود في الخارج، أعظم من أن تحصر.
فهؤلاء الضالون قالوا: هذا أرض الحقيقة، وهو عالم الخيال.
وقد يشتبه على بعضهم فيظنه في الخارج، ويتخيل لهم فيه مدائن ورجال عوالم، كما يتخيل للنائم. ويتخيل لأحدهم أنه صار إلها ونبيا، أو أنه المهدي، أو خاتم الأولياء، إلى غير ذلك مما يطول [ ص: 109 ] وصفه، ويعرض للممرورين وغيرهم من التخيلات الباطلة ما يطول وصفه.
فمنهم من يقول: إن من النفوس من يتعلق بجزء من الفلك، فيتخيل فيه ما يتنعم فيه تنعما خياليا، وأن ذلك يقوم مقام اللذة الحسية، وقد يقال: إنه أعظم منها، كما ذكر ذلك ابن سينا. فقول هؤلاء من جنس حقيقة أولئك الذين جعلوا عالم الخيال هو أرض الحقيقة. ومن قال من المتفلسفة: إن النفس ليست جسما، وأنكر معاد البدن،
ونحن لا ننكر وجود الخيالات، فإن هذا لا ينكره عاقل، لكن ننكر تعظيمها وتسويتها بالذات الحقيقية، أو أن ما وعد الله به عباده المؤمنين من هذا الجنس.
والمقصود هنا أن الصور الخيالية لا ينكرها أحد، ولا يقول أحد: إنها مماثلة في الحقيقة والصفات والمقدار للموجودات في الأعيان، سواء كانت تلك الخيالات هو خيال تلك الموجودات أو غيرها.
فقد تبين أن ما ذكره وغيره من الفلاسفة وقرروه بالأدلة العقلية، ليس منافيا لعلم الله بالجزئيات، بل فيه ما هو دليل على ذلك. ابن سينا
ولكن غاية ما فيه تناقضهم، حيث يثبتون الشيء دون لوازمه، كما أثبت علمه بأعيان الموجودات التامة، وبأنواع المتغيرات دون التغير في العلم. [ ص: 110 ] ابن سينا
وأدلته الصحيحة توجب علمه بالمتغيرات، وأنه يعلم الكليات والجزئيات، كما سنذكر ألفاظه.
وكذلك أبو البركات أثبت علمه بالكليات والجزئيات والمتغيرات، لكنه قال في القدر وفي علمه بما لا يتناهى قولا منكرا، سنذكره إن شاء الله.
وكل من قال في مسألة العلم قولا يخالف النصوص النبوية، من أهل الكلام والفلسفة، فلا بد أن يكون قوله مناقضا لأصوله الصحيحة، مخالفا لصريح المعقول. ولهذا كثر اضطراب هؤلاء في مسألة العلم.