ـ فإن ذلك جائز عندنا ـ بل لأنه لا تقوم به الصفات. فإذا قالوا: نحن ما أحلنا قيام الحوادث بالواجب، لكون القديم لا تحله الحوادث
قيل لهم: فحينئذ سهلت القضية، فإن جماهير أهل الملل من المسلمين وغيرهم، بل ـ وجمهور الفلاسفة ـ يخالفونكم في هذا الأصل، وقولكم في نفي الصفات أضعف بكثير من قول من قال: القديم لا تحله الحوادث. [ ص: 355 ]
ولهذا كان كثير من المسلمين ـ كالكلابية ومن وافقهم ـ يقولون بإثبات الصفات للواجب، دون قيام الحوادث به، فإذا لم يكن لكم حجة على نفي قيام الحوادث به إلا ما هو حجة لكم على نفي الصفات، كانت الأدلة على بطلان قولكم كثيرة جدا.
وتبين حينئذ فساد قولكم بنفي الصفات وجعل المعاني المتعددة شيئا واحدا، وأن قولكم: «إن العاشق والمعشوق والعشق، والعاقل والمعقول والعقل: شيء واحد، وإن العالم هو العلم، والقدرة هي الإرادة» من أفسد الأقوال، كما قد بين فيما تقدم لما نبهنا على تلبيسكم على المسلمين، وتكلمنا على ما تسمونه تركيبا، وتنفون به الصفات، وبينا أنه ليس تركيبا في الحقيقة، وإن كان في اصطلاحكم يسمى تركيبا، وأنه ـ بتقدير موافقتكم على اصطلاحكم الفاسد ـ لا حجة لكم على نفيه، وهكذا تجابون عن حجة التأثير.
وقولهم: «إن كان التأثير قديما لزم قدم الأثر، وإن كان محدثا، فإن كان المحدث جنس التأثير ـ وقيل بجواز ذلك ـ كان للحوادث ابتداء، وبطل مذهبكم، وإن قيل بامتناعه ـ وهو أنه لا يحدث شيء ما حتى يحدث شيء ـ فهذا ممتنع باتفاق العقلاء، وقد يسمى تسلسلا ودورا، وإن كان المحدث التأثير في شيء معين بعد حدوث معين قبله، لزم التسلسل وقيام الحوادث بالقديم.
فإنه يقال لهم: إما أن يكون التأثير أمرا وجوديا، وإما أن لا يكون وجوديا، فإن لم يكن وجوديا بطلت الحجة وهو جواب الرازي، وهو جواب من يقول: الخلق نفس المخلوق.
وإن كان وجوديا، فإما أن يكون قائما بذات المؤثر أو بغيره، فإن كان [ ص: 356 ] قائما بذاته، لزم جواز قيام الأمور الوجودية بواجب الوجود، وهذا قول مثبتة الصفات.
وعلى هذا التقدير فالتسلسل في الآثار والشروط، إن كان ممكنا بطلت هذه الحجة، وأمكن تسلسل التأثيرات القائمة بالقديم، وإن كان ممتنعا لزم جواز حدوث الحوادث عن تأثير قديم، فتبطل حجتكم.
وإن كان التأثير ـ أو تمامه ـ قائما بغيره لزم جواز التسلسل في الشروط، وأن يكون ممكنا، وإذا كان ممكنا أمكن تسلسل التأثير، فبطلت الحجة.
وذلك لأن التقدير أن تمام التأثير قائم بغير المؤثر، وعلى هذا التقدير فإن لم يكن التسلسل ممكنا كان هناك تأثير قديم بغير ذات الله تعالى، وهذا باطل لم يقل به أحد، وإن قدر إمكانه أمكن حدوث الأفلاك عنه، وهو المطلوب.
ومما يجابون به عن حجة التأثير، أن يقال أيضا: التسلسل في الآثار إن كان ممكنا بطلت الحجة، لإمكان حدوث الأفلاك عن تأثير مسبوق بتأثير آخر، وإن كان ممتنعا لزم إما حدوث الحوادث عن تأثير قديم، أو كون التأثير عدميا، وعلى التقديرين يبطل قولكم.
وذلك لأن الحوادث مشهودة لا بد لها من إحداث محدث، وذلك الإحداث هو التأثير، فإن كان عدميا بطلت الحجة، وإن كان موجودا، فإن كان قديما لزم حدوث الحوادث عن تأثير قديم، فتبطل الحجة، وإن كان التأثير محدثا ـ والتقدير أن التسلسل ممتنع ـ فيلزم أن يكون حدث بتأثير محدث، فتبطل الحجة أيضا.
وهو جواب لا مخلص لهم عنه، به ينقطع شغبهم. [ ص: 357 ]
وأما أن يجابوا بقول يخالف فيه أكثر العقلاء من المسلمين وغيرهم ويجعل خلق الله عز وجل للسماوات والأرض مبنيا على مثل هذا القول الذي هو جواب المعارضة: فهذا لا يرضى به عقل ولا ذو دين.
بل يجب أن يعلم أن بخلاف ما يسلكه من يسلكه من أهل الكلام الذين يزعمون أنهم يبينون العلم واليقين بالأدلة والبراهين، وإنما يستفيد الناظر في كلامهم كثرة الشكوك والشبهات، وهم في أنفسهم عندهم شك وشبهة فيما يقولون: إنه برهان قاطع، ولهذا يقول أحدهم في هذا الموضع: إنه برهان قاطع، وفي موضع آخر يفسد ذلك البرهان. الأمور المعلومة من دين المسلمين لا بد أن يكون الجواب عما يعارضها جوابا قاطعا لا شبهة فيه،
والذين يعارضون الثابت في الكتاب والسنة بما يزعمون أنه من العقليات القاطعة إنما يعارضونه بمثل هذه الحجج الداحضة.
فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه، ولا وفى بموجب العلم والإيمان، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس، ولا أفاد كلامه العلم واليقين.
ولولا أنا قد بسطنا الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع ـ وهذا موضع تنبيه وإشارة، لا موضع بسط ـ لكنا نبسط الكلام في ذلك، ولكن نبهنا على ذلك. [ ص: 358 ]