وإن قالوا: «إنما كان هذا لأن حركة الفلك لم يمكن وجودها كلها، أو لم يمكن وجود الحوادث كلها في الأزل، فتأخر فيضه لتأخر استعداد القوابل» .
[ ص: 381 ]
قيل: هذا إنما يمكن أن يقال إذا كان القابل ليس هو صادرا عن الفاعل، مثل القوابل لأثر الشمس، فإن أثر الشمس فيها مختلف باختلاف تلك القوابل، فتسود وجه القصار وتبيض الثوب، وترطب الفاكهة تارة، وتجففها أخرى، ولهذا إنما قال سلفهم هذا في العقل الفعال، فقالوا إنه يتأخر فيضه على القوابل، لتأخر استعداد القوابل بسبب الحركات الفلكية، فالموجب لاستعداد القوابل ليس هو الموجب للفيض عندهم.
وهذا قالوه لاعتقادهم وجود هذا العقل، وهذا لا يستقيم في المبدع لكل شيء، الذي منه الإعداد ومنه الإمداد، لا يتوقف فعله على غيره.
فأما إذا كان الفاعل هو الفاعل للقابل والمقبول، عاد السؤال جذعا، وقيل: فلم جعل القوابل تقبل على ذلك الوجه، دون غيره؟ ولم جعل الحركة الفلكية على هذا الوجه دون غيره، مع أن الممكن ليس له من نفسه شيء أصلا، لا طبيعة ولا غيرها؟ بل الموجب هو الفاعل لطبيعته وحقيقته، وليس له حقيقة في الخارج مباينة للموجود في الخارج، بل البارئ هو المبدع للحقائق كلها.
ومن
nindex.php?page=treesubj&link=29620_28713_28712قال: (إن للممكن ماهية مغايرة في الخارج للأعيان الموجودة في الخارج) .
أو قال: (إنه شيء ثابت في القدم)، فلا يمكنه أن يقول: إن تلك المعدومات أوجبت قدرة الفاعل على بعضها دون بعض، مع أنها كلها ممكنة: إلا لأمر آخر، مثل أن يقال: ما يمكن غير هذا، وهذا هو الأصلح، أو الأكمل والأفضل.
[ ص: 382 ]
وبهذا تظهر حجة الله تعالى في قوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=4يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون [الرعد: 4] ، فإنه دل بهذا على تفضيله بعض المخلوقات على بعض، مع استوائها فيما تساوت فيه من الأسباب.
كما قال في الآية الأخرى:
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=27ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=28ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء . [فاطر: 27- 28].
فإذا قال القائل: إنما تفاضلت واختلفت لاختلاف القوابل، وأسباب أخرى من الهواء والتراب والحب والنوى.
قيل له: وتلك القوابل والأسباب هي أيضا من فعله، ليست من فعل غيره، فهو الذي أعد القوابل، وهو الذي أمد كل شيء بحسب ما أعده له، وحينئذ فقد تبين أنه خلق الأمور المختلفة، ومن كل شيء زوجين، فبطل أن يكون واحدا بسيطا لا يصدر عنه إلا واحد لازم له، لا يصدر عنه غيره، ولا يمكنه فعل شيء سواه، فإن فعل المختلفات الحادثات يدل على أنه فاعل بقدرته ومشيئته، ولهذا قال:
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=28إنما يخشى الله من عباده العلماء [فاطر: 28] .
قال طائفة من السلف: العلماء به فإن من جعله غير قادر على إحداث فعل، ولا تغيير شيء من العالم، بل لزمه ما لا يمكنه مفارقته: لم يخشه، إنما يخشى الكواكب والأفلاك التي تفعل الآثار الأرضية عنده، أو ما كان نحو ذلك، ولهذا عبدها هؤلاء من دون الله، ولهذا كان دعاؤهم لها وخشيتهم منها.
[ ص: 383 ]
ولهذا تبرأ الخليل من مخافتها لما ناظرهم في عبادة الكواكب والأصنام، وقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=76لا أحب الآفلين [الأنعام: 76] .
قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=80وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=81وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون [الأنعام: 80- 81] .
وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=82الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون [الأنعام: 82]، فإن المشركين يخافون المخلوقات من الكواكب وغيرها، وهم قد أشركوا بالله، ولا يخافون الله إذ أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وإنما يخشاه من عباده العلماء، الذين يعلمون أنه على كل شيء قدير، وأنه بكل شيء عليم،
nindex.php?page=treesubj&link=28839فهؤلاء الدهرية الفلاسفة وأمثالهم لا يخافون الله تعالى.
وَإِنْ قَالُوا: «إِنَّمَا كَانَ هَذَا لِأَنَّ حَرَكَةَ الْفَلَكِ لَمْ يُمْكِنْ وُجُودُهَا كُلُّهَا، أَوْ لَمْ يُمْكِنْ وُجُودُ الْحَوَادِثِ كُلِّهَا فِي الْأَزَلِ، فَتَأَخَّرَ فَيْضُهُ لِتَأَخُّرِ اسْتِعْدَادِ الْقَوَابِلِ» .
[ ص: 381 ]
قِيلَ: هَذَا إِنَّمَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِذَا كَانَ الْقَابِلُ لَيْسَ هُوَ صَادِرًا عَنِ الْفَاعِلِ، مِثْلُ الْقَوَابِلِ لِأَثَرِ الشَّمْسِ، فَإِنَّ أَثَرَ الشَّمْسِ فِيهَا مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ تِلْكَ الْقَوَابِلِ، فَتُسَوِّدُ وَجْهَ الْقَصَّارِ وَتُبَيِّضُ الثَّوْبَ، وَتُرَطِّبُ الْفَاكِهَةَ تَارَةً، وَتُجَفِّفُهَا أُخْرَى، وَلِهَذَا إِنَّمَا قَالَ سَلَفُهُمْ هَذَا فِي الْعَقْلِ الْفَعَّالِ، فَقَالُوا إِنَّهُ يَتَأَخَّرُ فَيْضُهُ عَلَى الْقَوَابِلِ، لِتَأَخُّرِ اسْتِعْدَادِ الْقَوَابِلِ بِسَبِبِ الْحَرَكَاتِ الْفَلَكِيَّةِ، فَالْمُوجِبُ لِاسْتِعْدَادِ الْقَوَابِلِ لَيْسَ هُوَ الْمُوجِبَ لِلْفَيْضِ عِنْدَهُمْ.
وَهَذَا قَالُوهُ لِاعْتِقَادِهِمْ وُجُودَ هَذَا الْعَقْلِ، وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ فِي الْمُبْدِعِ لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي مِنْهُ الْإِعْدَادُ وَمِنْهُ الْإِمْدَادُ، لَا يَتَوَقَّفُ فِعْلُهُ عَلَى غَيْرِهِ.
فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْفَاعِلُ هُوَ الْفَاعِلَ لِلْقَابِلِ وَالْمَقْبُولِ، عَادَ السُّؤَالُ جَذَعًا، وَقِيلَ: فَلِمَ جَعَلَ الْقَوَابِلَ تُقْبَلُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، دُونَ غَيْرِهِ؟ وَلِمَ جَعَلَ الْحَرَكَةَ الْفَلَكِيَّةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ دُونَ غَيْرِهِ، مَعَ أَنَّ الْمُمْكِنَ لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ أَصْلًا، لَا طَبِيعَةٌ وَلَا غَيْرُهَا؟ بَلِ الْمُوجِبُ هُوَ الْفَاعِلُ لِطَبِيعَتِهِ وَحَقِيقَتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ فِي الْخَارِجِ مُبَايَنَةً لِلْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ، بَلِ الْبَارِئُ هُوَ الْمُبْدِعُ لِلْحَقَائِقِ كُلِّهَا.
وَمِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=29620_28713_28712قَالَ: (إِنَّ لِلْمُمْكِنِ مَاهِيَّةً مُغَايِرَةً فِي الْخَارِجِ لِلْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ) .
أَوْ قَالَ: (إِنَّهُ شَيْءٌ ثَابِتٌ فِي الْقِدَمِ)، فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ تِلْكَ الَمَعْدُومَاتِ أَوْجَبَتْ قُدْرَةَ الْفَاعِلِ عَلَى بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ، مَعَ أَنَّهَا كُلُّهَا مُمْكِنَةٌ: إِلَّا لِأَمْرٍ آخَرَ، مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: مَا يُمْكِنُ غَيْرُ هَذَا، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلَحُ، أَوِ الْأَكْمَلُ وَالْأَفْضَلُ.
[ ص: 382 ]
وَبِهَذَا تَظْهَرُ حُجَّةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=4يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرَّعْدِ: 4] ، فَإِنَّهُ دَلَّ بِهَذَا عَلَى تَفْضِيلِهِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى بَعْضٍ، مَعَ اسْتِوَائِهَا فِيمَا تَسَاوَتْ فِيهِ مِنَ الْأَسْبَابِ.
كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=27أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=28وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ . [فَاطِرٍ: 27- 28].
فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: إِنَّمَا تَفَاضَلَتْ وَاخْتَلَفَتْ لِاخْتِلَافِ الْقَوَابِلِ، وَأَسْبَابٍ أُخْرَى مِنَ الْهَوَاءِ وَالتُّرَابِ وَالْحَبِّ وَالنَّوَى.
قِيلَ لَهُ: وَتِلْكَ الْقَوَابِلُ وَالْأَسْبَابُ هِيَ أَيْضًا مِنْ فِعْلِهِ، لَيْسَتْ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ، فَهُوَ الَّذِي أَعَدَّ الْقَوَابِلَ، وَهُوَ الَّذِي أَمَدَّ كُلَّ شَيْءٍ بِحَسْبِ مَا أَعَدَّهُ لَهُ، وَحِينَئِذٍ فَقَدَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ خَلَقَ الْأُمُورَ الْمُخْتَلِفَةَ، وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ زَوْجَيْنِ، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا بَسِيطًا لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا وَاحِدٌ لَازِمٌ لَهُ، لَا يَصْدُرُ عَنْهُ غَيْرُهُ، وَلَا يُمْكِنُهُ فِعْلُ شَيْءٍ سِوَاهُ، فَإِنَّ فِعْلَ الْمُخْتَلِفَاتِ الْحَادِثَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=28إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فَاطِرٍ: 28] .
قَالَ طَائِفَةً مِنَ السَّلَفِ: الْعُلَمَاءُ بِهِ فَإِنَّ مَنْ جَعَلَهُ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى إِحْدَاثِ فِعْلٍ، وَلَا تَغْيِيرُ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ، بَلْ لَزِمَهُ مَا لَا يُمْكِنُهُ مُفَارَقَتُهُ: لَمْ يَخْشَهُ، إِنَّمَا يَخْشَى الْكَوَاكِبَ وَالْأَفْلَاكَ الَّتِي تَفْعَلُ الْآثَارَ الْأَرْضِيَّةَ عِنْدَهُ، أَوْ مَا كَانَ نَحْوَ ذَلِكَ، وَلِهَذَا عَبَدَهَا هَؤُلَاءِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلِهَذَا كَانَ دُعَاؤُهُمْ لَهَا وَخَشْيَتُهُمْ مِنْهَا.
[ ص: 383 ]
وَلِهَذَا تَبَرَّأَ الْخَلِيلُ مِنْ مَخَافَتِهَا لَمَّا نَاظَرَهُمْ فِي عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ، وَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=76لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الْأَنْعَامِ: 76] .
قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=80وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=81وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الْأَنْعَامِ: 80- 81] .
وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=82الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الْأَنْعَامِ: 82]، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يَخَافُونَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَغَيْرِهَا، وَهُمْ قَدْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ، وَلَا يَخَافُونَ اللَّهَ إِذْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، وَإِنَّمَا يَخْشَاهُ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ، الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ،
nindex.php?page=treesubj&link=28839فَهَؤُلَاءِ الدَّهْرِيَّةُ الْفَلَاسِفَةُ وَأَمْثَالُهُمْ لَا يَخَافُونَ اللَّهَ تَعَالَى.