فإذا قيل "هل الذات كافية" إن أريد به الذات المجردة فتلك لا حقيقة لها في الخارج عند أهل الإثبات، وإذا قدرت تقديرا فهي لا تكفي في إثبات ما يثبت لها، وإن أريد به الذات المنعوتة فإنه يقوم بها الأفعال الاختيارية، فمعلوم أن هذه الذات لا يجب أن يتوقف ما يتجدد لها من فعل ومفعول على سبب منفصل عنها، ونظير هذا [ ص: 231 ] فإنا قد بينا في غير هذا الموضع أن الذات المجردة عن الصفات لا حقيقة لها، بل الصفات زائدة على ما يثبته النفاة من الذات، وأما الذات الموصوفة بصفاته القادرة على أفعالها فتلك مستلزمة لما يلزمها من الصفات، قادرة على ما تشاؤه من الأفعال، فهي لا تكون إلا موصوفة، لا يمكن أن تتجرد عن الصفات اللازمة لها، حتى يقال: هل هي زائدة عليها أو ليست زائدة عليها؟ بل هي داخلة في مسمى اسمها، والأفعال القائمة بها بقدرتها وإرادتها كذلك. قول نفاة الصفات: إن الصفات هل هي زائدة على الذات أو ليست زائدة؟
فكما أنه مسمى بأسمائه الحسنى، منعوت بصفاته العلى، قبل خلق السماوات والأرض، وبعد إقامة القيامة، وفيما بين ذلك، لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال، منعوتا بنعوت الإكرام والجلال، فكذلك هو مسمى بأسمائه الحسنى منعوت بصفاته العلى، قبل هذه الأفعال وبعدها.
وكما أن ذلك ثابت قبل حدوث المفعولات وبعدها، فهو أيضا ثابت قبل حدوث الأفعال وبعدها، ومن آياته الشمس والقمر والكواكب، وما تستحقه هذه الأعيان من الأسماء والصفات هو ثابت لها قبل الحركات المعينة وبعدها، ولا يحتاج أن يقدر لها ذات مجردة عن النور وعن دوام الحركة، ثم زيد عليها النور ودوام الحركة، فالخالق سبحانه أولى بثبوت الكمال له وانتفاء النقص عنه، والمخلوقات [ ص: 232 ] إنما احتاجت فيما يحدث عنها إلى سبب منفصل لأنها هي في نفسها محتاجة إلى الفاعل المنفصل، فلا يوجد شيء من ذاتها وصفاتها وأفعالها إلا بأمر منفصل عنها، وأما الخالق سبحانه وتعالى فهو الغني عما سواه، فلا يفتقر في شيء من ذاته وصفاته وأفعاله إلى أمر منفصل عنه، بل كل ما كان منفصلا عنه فهو مفتقر إليه، وهو سبحانه عني عن ذلك المنفصل الذي هو مفتقر إليه، فلا يحتاج فيما يجدده من أفعاله القائمة بنفسه التي يريدها ويقدر عليها إلى أمر مستغن عنه، كما لا يحتاج في مفعولاته المنفصلة عنه إلى ذلك وأولى، وإذا كان قد خلق من الأمور المنفصلة عنه ما جعله سببا لأفعال تقوم بنفسه، كما يخلق الطاعات التي ترضيه، والتوبة التي يفرح بها، والدعاء الذي يجيب سائله، وأمثال ذلك من الأمور، فليس هو في شيء من ذلك مفتقرا إلى ما سواه، بل هو سبحانه الخالق للجميع، وكل ما سواه مفتقر إليه، وهو الغني عن كل ما سواه، وهذا كما أن ما يفعله من المخلوقات بعضها ببعض، كإنزال المطر بالسحاب وإنبات النبات بالماء، لا يوجب افتقاره إلى الأسباب المنفصلة، إذ هو خالق هذا وهذا، وجاعل هذا سببا لهذا، وقد بسطت هذه الأمور في غير هذا الموضع بما لا يليق بهذا المكان.