والمقصود هنا التنبيه على أن النزاع في هذا الأصل يتنوع: تارة إلى الفعل المأمور به، وتارة إلى جواز الأمر.
ومن هنا شبهة من شبه من المتكلمين على الناس حيث جعل القسمين قسما واحدا، وادعى مطلقا، لوقوع بعض الأقسام التي لا يجعلها عامة الناس من باب ما لا يطاق، والنزاع فيها لا يتعلق بمسائل الأمر والنهي، وإنما يتعلق بمسائل القضاء والقدر، ثم إنه جعل جواز هذا القسم مستلزما لجواز القسم الذي اتفق المسلمون على أنه غير مقدور عليه، وقاس أحد النوعين بالآخر، وذلك من تكليف ما لا يطاق - فإن من قاس الصحيح المأمور بالأفعال كقوله: إن القدرة مع الفعل، أو أن الله علم أنه [ ص: 65 ] لا يفعل - على العاجز الذي لو أراد الفعل لم يقدر عليه، فقد جمع بين ما يعلم الفرق بينهما بالاضطرار عقلا ودينا، وذلك من مثارات الأهواء بين الأقيسة التي اتفق المسلمون؛ بل وسائر أهل الملل؛ بل وسائر العقلاء على بطلانها القدرية وإخوانهم الجبرية.
وإذا عرف هذا فإطلاق القول بتكليف ما لا يطاق من البدع الحادثة في الإسلام، كإطلاق وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على إنكار ذلك وذم من يطلقه، وإن قصد به الرد على القول بأن العباد مجبورون على أفعالهم، القدرية الذين لا يقرون بأن الله خالق أفعال العباد ولا بأنه شاء الكائنات، وقالوا: هذا رد بدعة ببدعة، وقابل الفاسد بالفاسد، والباطل بالباطل، ولولا أن هذا الجواب لا يحتمل البسط لذكرت من نصوص أقوالهم في ذلك ما يبين ردهم لذلك.
وأما إذا فصل مقصود القائل وبين بالعبارة التي لا يشتبه الحق فيها بالباطل ما هو الحق، وميز بين الحق والباطل - كان هذا من الفرقان، وخرج المبين حينئذ مما ذم به أمثال هؤلاء الذين وصفهم الأئمة بأنهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على ترك الكتاب، وأنهم يتكلمون بالمتشابه من الكلام، [ ص: 66 ] ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم، ولهذا كان يدخل عندهم المجبرة في مسمى القدرية المذمومين؛ لخوضهم في القدر بالباطل؛ إذ هذا جماع المعنى الذي ذمت به القدرية.
ولهذا ترجم في كتاب "السنة" فقال: الإمام أبو بكر الخلال القدرية وقولهم: إن الله أجبر العباد على المعاصي، ثم روى عن الرد على عمر بن عثمان، عن قال: سألت بقية بن الوليد، الزبيدي عن الجبر ، فقال والأوزاعي الزبيدي: أمر الله أعظم، وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل، ولكن يقضي ويقدر ويخلق، ويجبل عبده على ما أحب.
ما أعرف للجبر أصلا من القرآن ولا السنة، الأوزاعي: فأهاب أن أقول ذلك؛ ولكن القضاء والقدر والخلق والجبل، فهذا يعرف في القرآن والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما وضعت هذا مخافة أن يرتاب رجل تابعي من أهل الجماعة والتصديق. [ ص: 67 ] وقال
فهذان الجوابان اللذان ذكرهما هذان الإمامان في عصر تابعي التابعين من أحسن الأجوبة.
أما الزبيدي محمد بن الوليد صاحب فإنه قال: الزهري فنفى الجبر. أمر الله أعظم وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل،
وذلك لأن الجبر المعروف في اللغة هو إلزام الإنسان بخلاف رضاه، كما يقول الفقهاء في باب النكاح: هل تجبر المرأة على النكاح أو لا تجبر؟ وإذا عضلها الولي ماذا تصنع؟ فيعنون بجبرها إنكاحها بدون رضاها واختيارها ويعنون بعضلها منعها مما ترضاه وتختاره. فقال: الله أعظم من أن يجبر أو يعضل؛ لأن الله سبحانه قادر على أن يجعل العبد مختارا راضيا لما يفعله، ومبغضا وكارها لما يتركه، كما هو الواقع، فلا يكون العبد مجبورا على ما يحبه ويرضاه ويريده، وهي أفعاله الاختيارية، ولا يكون معضولا عما يتركه، فيبغضه ويكرهه، أو لا يريده، وهي تروكه الاختيار.
وأما فإنه منع من إطلاق هذا اللفظ، وإن عنى به هذا المعنى؛ حيث لم يكن له أصل في الكتاب والسنة: فيفضي إلى إطلاق لفظ مبتدع ظاهر في إرادة الباطل، وذلك لا يسوغ، وإن قيل: إنه يراد به معنى صحيح. [ ص: 68 ] الأوزاعي
قال الخلال: أخبرنا قال: سمعت بعض المشيخة يقول: سمعت أبو بكر المروزي، يقول: أنكر عبد الرحمن بن مهدي جبر. وقال: الله جبل العباد. سفيان الثوري
قال المروزي: أظنه أراد لأشج عبد القيس، يعني قوله الذي في صحيح «إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة. مسلم:
فقال: أخلقين تخلقت بهما؟ أم خلقين جبلت عليهما؟ فقال: بل خلقين جبلت عليهما.
فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله» . قول النبي صلى الله عليه وسلم
ولهذا احتج وغيره على البخاري بقوله تعالى: خلق أفعال العباد إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا [المعارج: 19 - 21] فأخبر تعالى أنه خلق الإنسان على هذه الصفة. [ ص: 69 ]
واحتج غيره بقول الخليل عليه السلام: رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي [إبراهيم: 40] ، وبقوله: ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك [البقرة: 128] .
وجواب أقوم من جواب الأوزاعي الزبيدي، لأن الزبيدي نفى الجبر، منع إطلاقه؛ إذ هذا اللفظ قد يحتمل معنى صحيحا، فنفيه قد يقتضي نفي الحق والباطل. والأوزاعي
كما ذكر الخلال ما ذكره في كتابه السنة فقال: حدثنا عبد الله بن أحمد محمد ابن بكار، حدثنا أبو معشر، حدثنا يعلى، عن قال: إنما سمي الجبار لأنه يجبر الخلق على ما أراد، فإذا امتنع من إطلاق اللفظ المجمل المحتمل المشتبه زال المحذور، وكان أحسن من نفيه، وإن كان ظاهرا في المحتمل المعنى الفاسد خشية أن يظن أنه ينفي المعنيين جميعا. محمد بن كعب