قلت: هذه الطريقة جزء من الطريقة المذكورة في القرآن، وهي التي جاءت بها الرسل، وكان عليها سلف الأمة وأئمتها وجماهير العقلاء من الآدميين، فإن ونحو ذلك، لكن القائلون بإثبات الجوهر الفرد من الله سبحانه يذكر في آياته ما يحدثه في العالم من السحاب والمطر والنبات والحيوان، وغير ذلك من الحوادث، ويذكر في آياته خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم يسمون هذا استدلالا بحدوث الصفات، بناء على أن هذه الحوادث المشهود حدوثها لم تحدث ذواتها، بل الجواهر والأجسام التي كانت موجودة قبل ذلك لم تزل من حين حدوثها بتقدير حوادثها، ولا تزال موجودة، وإنما تغيرت صفاتها بتقدير حدوثها كما تتغير صفات الجسم إذا تحرك بعد السكون، وكما تتغير ألوانه، وكما تتغير أشكاله. وهذا مما ينكره عليهم جماهير العقلاء من المسلمين وغيرهم. [ ص: 84 ]
وحقيقة قول هؤلاء الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم: أن الرب لم يزل معطلا لا يفعل شيئا، ولا يتكلم بمشيئته وقدرته، ثم إنه أبدع جواهر من غير فعل يقوم به، وبعد ذلك ما بقي يخلق شيئا، بل إنما تحدث صفات تقوم بها، ويدعون أن هذا قول أهل الملل: الأنبياء وأتباعهم، وبينهم وبين الفلاسفة في مثل هذا نزاع أخطأ فيه كل من الفريقين، فإن الفلاسفة يقولون بإثبات المادة والصورة، ويجعلون المادة والصورة جوهرين، وهؤلاء يقولون: ليست الصورة إلا عرضا قائما بجسم.
والتحقيق: أن المادة والصورة لفظ يقع على معان. كالمادة والصورة الصناعية والطبيعية، والكلية والأولية.
فالأول: مثل الفضة إذا جعلت درهما وخاتما وسبيكة، والخشب إذا جعل كرسيا، واللبن والحجر إذا جعل بيتا، والغزل إذا نسج ثوبا، ونحو ذلك. فلا ريب أن المادة هنا التي يسمونها الهيولى: هي أجسام قائمة بنفسها، وأن الصورة أعراض قائمة بها، فتحول الفضة من صورة إلى صورة هو تحولها من شكل إلى شكل، مع أن حقيقتها لم تتغير أصلا.
وبهذا يظهر لك خطأ قول القائل: إن من أثبت افتقار المحدث إلى الفاعل بالقياس على حدوث الذوات قال هنا كذلك. وهذه الطريقة [ ص: 85 ] طريقة أبي علي وأبي هاشم ومن وافقهما.
فيقال: هؤلاء إنما قاسوا على افتقار الكتابة إلى كاتب، والبناء إلى بان، ونحو ذلك. ومعلوم أن البناء والكاتب لم يبدع جسما، وإنما أحدث في الأجسام تأليفا خاصا، وهو عرض من الأعراض. فكيف يجعل مثل هذا محدثا للذوات، ويجعل الذي خلق الإنسان من نطفة، والشجرة من نواة، إنما أحدث الصفات؟ لكن المعتزلة لا يقولون: إن الجسم يحدث جسما، وإنما يحدث عرضا.
والثاني: من معاني المادة والصورة: هي الطبيعية، وهي صورة الحيوانات والنباتات والمعادن ونحو ذلك، فهذه إن أريد بالصورة فيها نفس الشكل الذي لها فهو عرض قائم بجسم، وليس هذا مراد الفلاسفة. وإن أريد بالصورة نفس هذا الجسم المتصور، فلا ريب أنه جوهر محسوس قائم بنفسه.
ومن قال: (إن هذا عرض قائم بجوهر) من أهل الكلام فقد غلط، وحينئذ فيقول المتفلسف: إن هذه الصورة قائمة بالمادة والهيولى، إن أراد بذلك ما خلق منه الإنسان كالمني - وهو لم يرد ذلك - فلا ريب أن ذاك جسم آخر فسد واستحال، وليس هو الآن [ ص: 86 ] موجودا، بل ذاك صورة، وهذا صورة، والله تعالى خلق إحداهما من الأخرى، وإن أراد أن هنا جوهرا بنفسه غير هذا الجسم المشهود الذي هو صورة، وأن هذا الجسم المشهود - الذي هو صورة - قائم بذلك الجوهر العقلي، فهذا من خيالاتهم الفاسدة.
ومن هنا تعرف قولهم في الهيولى الكلية، حيث ادعوا أن بين أجسام العالم جوهرا قائما بنفسه، تشترك فيه الأجسام. ومن تصور الأمور وعرف ما يقول علم أنه ليس بين هذا الجسم المعين وهذا الجسم المعين قدر مشترك موجود في الخارج أصلا، بل كل منهما متميز عن الآخر بنفسه المتناولة لذاته وصفاته، ولكن يشتركان في المقدارية وغيرها، من الأحكام اللازمة للأجسام، وعلم أن اتصال الجسم بعد انفصاله هو نوع من التفرق، والتفرق والاجتماع هما من الأعراض التي يوصف بها الجسم، فالاتصال والانفصال عرضان، والقابل لهما نفس الجسم الذي يكون متصلا تارة، ومنفصلا تارة أخرى، كما يكون مجتمعا تارة ومفترقا أخرى ومتحركا تارة وساكنا أخرى. وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.