ثم قال: ولقائل أن يقول: إثبات الجملة لما لا يتناهى وإن كان غير مسلم لكن ما المانع من كون الجملة ممكنة الوجود، ويكون ترجحها بترجح آحادها، وترجح آحادها كل واحد بالآخر إلى غير النهاية على ما قيل.
قال: «وهذا إشكال مشكل، وربما يكون عند غيري حله».
قلت: فهذا استدلاله على واجب الوجود لم يذكر في كتبه غيره، وأما فأبطل طرق الناس، وبناه على أن حدوث العالم واستدل على امتناع حوادث لا أول لها بعد أن أبطل وجوه غيره بالوجه الذي تقدم، وتقدم ما فيه من الضعف الذي بينه الأرموي وغيره، ثم إذا ثبت حدوث العالم فإنه لم يستدل بالحدوث على المحدث إلا بطريقة الذين [ ص: 96 ] بنوا ذلك على الإمكان، وهو أن ذلك يتضمن التخصيص المفتقر إلى مخصص، لأنه ترجيح لأحد طرفي الممكن، فهو لا يستدل بالحدوث على المحدث، إلا بناء على أن ذلك ممكن يفتقر إلى واجب، ولا يجعل الممكن دالا على الواجب، إلا بناء على نفي التسلسل، والتسلسل قد أورد عليه السؤال الذي قال إنه لا جواب له عنه. الجسم لا يخلو من الأعراض الحادثة، إذ العرض لا يبقى زمانين،
وكل هذه المقدمات التي ذكرها لا يفتقر إثبات الصانع إليها، وبتقدير افتقاره إليها فإبطال التسلسل ممكن، فتتم تلك المقدمات، وذلك أن كما تقدم، بل نفس ما يشهد حدوثه من الحوادث يغني عن ذلك، والعلم بأن الحادث يفتقر إلى المحدث هو من أبين العلوم الضرورية، وهو أبين من افتقار الممكن إلى المرجح، فلا يحتاج أن يقرر ذلك بأن الحدوث ممكن، أو أنه كان يمكن حدوثه على غير ذلك الوجه، فتخصيصه بوجه دون وجه ممكن جائز الطرفين، فيحتاج إلى مرجح مخصص بأحدهما. إثبات الصانع لا يفتقر إلى حدوث الأجسام
وهذه الطريقة يسلكها من يسلكها من متأخري أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم على ذلك من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم. وأبي حنيفة
وقد نبهنا على أنها وإن كانت صحيحة فإنها تطويل بلا فائدة فيه، واستدلال على الأظهر بالأخفى، وعلى الأقوى [ ص: 97 ] بالأضعف، كما لا يحد الشيء بما هو أخفى منه، وإن كان الحد مطابقا للمحدود مطردا منعكسا يحصل به التمييز، مع أن الحد والاستدلال بالأخفى قد يكون فيه منفعة من وجوه أخرى، مثل من حصلت له شبهة أو معاندة في الأمر الجلي فيبين له بغيره، لكون ذلك أظهر عنده، فإن الظهور والخفاء أمر نسبي إضافي، مثل من يكون من شأنه الاستخفاف بالأمور الواضحة البينة، فإذا كان الكلام طويلا مستغلقا هابه وعظمه، كما يوجد في جنس هؤلاء إلى غير ذلك من الفوائد، لكن ليس هذا مما يتوقف العلم والبيان عليه مطلقا، وهذا هو المقصود هنا، وهؤلاء كثيرا ما يغلطون، فيظنون أن المطلوب لا يمكن معرفته إلا بما ذكروه من الحد والدليل، وبسبب هذا الغلط يضل من يضل، حتى يتوهم أن ذلك الطريق المعين إذا بطل انسد باب المعرفة.
ولهذا لما بنى وغيره على هذه الطريقة التي تعود إلى طريقة الإمكان، وبنوا طريقة الإمكان على نفي التسلسل، حصل ما حصل، فكان مثل هؤلاء مثل من عمد إلى أمراء المسلمين وجندهم الشجعان الذين يدفعون العدو ويقاتلونهم، فقطعهم ومنعهم الرزق الذي به [ ص: 98 ] يجاهدون، وتركوا واحدا، ظنا أنه يكفي في قتال العدو وهو أضعف الجماعة وأعجزهم، ثم أنهم مع هذا قطعوا رزقه الذي به يستعين، فلم يبق بإزاء العدو أحد. الآمدي
ومثل نهر كبير كدجلة والفرات كان عليه عدة جسور يعبر الناس عليها، ومنها ما هو قوي مكين في مكان قريب، فعمد المتولي إلى تلك الجسور فقطعها كلها، ولم يترك إلا واحدا طويلا بعيدا ضعيفا، ثم إنه خرقه في أثنائه حتى انقطع الطريق، ولم يبق لأحد طريق إلى العبور، وهو مع هذا يستعمل الناس في الآلات التي يصنع بها الجسور، ويشعر الناس أنه لا يمكن أحدا أن يعبر إلا بما يصنعه.
أو مثل رجل كان لمدينته أسوار متداخلة سور خلف سور، كل سور منه يحفظ المدينة، فعمد المتولي فهدم تلك الأسوار كلها وترك سورا هو أضعفها وأطولها وأصعبها حفظا، ثم إنه مع ذلك خرق منه ناحية يدخل منها العدو، فلم يبق للمدينة سور يحفظها.
فيقال إن إثبات الصانع ممكن بطرق كثيرة منها الاستدلال بالحدوث على المحدث، وهذا يكفي فيه حدوث الإنسان نفسه، أو حدوث ما يشاهد من المحدثات كالنبات والحيوان وغير ذلك، ثم إنه يعلم بالضرورة أن المحدث لا بد له من محدث، وإذا قدر أنه أثبت الصانع بحدوث [ ص: 99 ] العالم لزم أن المحدث لا بد له من محدث، ثم إذا قدر أنه استدل بطريقة الإمكان إما ابتداء وإما مع طريقة الحدوث، فالعلم بأن الممكن يفتقر إلى الواجب علم ضروري لا يفتقر إلى نفي التسلسل.