وهؤلاء أهل التضليل والتجهيل الذين حقيقة قولهم: إن الأنبياء وأتباع الأنبياء جاهلون ضالون، لا يعرفون ما أراد الله بما وصف به نفسه من الآيات وأقوال الأنبياء. [ ص: 16 ]
ثم هؤلاء منهم من يقول: المراد بها خلاف مدلولها الظاهر والمفهوم، ولا يعرف أحد من الأنبياء والملائكة والصحابة والعلماء ما أراد الله بها، كما لا يعلمون وقت الساعة.
ومنهم من يقول: بل تجرى على ظاهرها، وتحمل على ظاهرها، ومع هذا فلا يعلم تأويلها إلا الله، فيتناقضون حيث أثبتوا لها تأويلا يخالف ظاهرها، وقالوا - مع هذا - إنها تحمل على ظاهرها، وهذا ما أنكره على شيخه ابن عقيل في كتاب ذم التأويل. القاضي أبي يعلى
وهؤلاء ولهذا يجعل كل فريق المشكل من نصوصه غير ما يجعل الفريق الآخر مشكلا، الفرق مشتركون في القول بأن الرسول لم يبين المراد بالنصوص التي يجعلونها مشكلة أو متشابهة، الذي يقول: إنها لا تعلم بالعقل يقول: نصوصها مشكلة متشابهة، بخلاف الصفات المعلومة بالعقل عنده بعقله فإنها - عنده - محكمة بينة، وكذلك يقول من فمنكر الصفات الخبرية نصوص هذه مشكلة. [ ص: 17 ] ينكر العلو والرؤية:
يجعل ما يثبتها مشكلا دون ما يثبت أسماءه الحسنى، ومنكر الصفات مطلقا يجعل نصوصها مشكلة، ومنكر معاني الأسماء وما وصفت به الجنة والنار يجعل ذلك مشكلا أيضا، ومنكر معاد الأبدان يجعل ما يثبت أن الله خالق كل شيء وما شاء كان مشكلا دون آيات الأمر والنهي والوعد والوعيد والخائض في القدر بالجبر يجعل نصوص الوعيد، بل ونصوص الأمر والنهي مشكلة، فقد يستشكل كل فريق ما لا يستشكله غيره، ثم يقول فيما يستشكله: إن معاني نصوصه لم يبينها الرسول. ومنكر القدر
ثم منهم من يقول: لم يعلم معانيها أيضا، ومنهم من يقول: بل علمها ولم يبينها، بل أحال في بيانها على الأدلة العقلية، وعلى من يجتهد في العلم بتأويل تلك النصوص، فهم مشتركون في أن الرسول لم يعلم أو لم يعلم، بل جهل معناها ، أو جهلها الأمة، من غير أن يقصد أن يعتقدوا الجهل المركب.
وأما أولئك فيقولون: بل قصد أن يعلمهم الجهل المركب، والاعتقادات الفاسدة، وهؤلاء مشهورون عند الأمة بالإلحاد والزندقة، بخلاف أولئك فإنهم يقولون: الرسول لم يقصد أن يجعل أحدا جاهلا معتقدا للباطل، ولكن أقوالهم تتضمن أن الرسول لم يبين الحق فيما خاطب به الأمة من الآيات والأحاديث إما مع كونه لم يعلمه، أو مع كونه علمه ولم يبينه. [ ص: 18 ]
ولهذا قال في خطبته فيما صنفه من الرد على الزنادقة الإمام أحمد والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله، قال: الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من تائه ضال قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مفارقة الكتاب يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين ، [ ص: 19 ] ويروى نحو هذه الخطبة عن رضي الله تعالى عنه، كما ذكر ذلك عمر بن الخطاب محمد بن وضاح في كتاب الحوادث والبدع.
فقد وصفوا في هذا الكلام بأنهم مع اختلافهم في الكتاب فهم كلهم مخالفون له، وهم مشتركون في مفارقته، يتكلمون بالكلام المتشابه، ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم، حيث لبسوا الحق بالباطل.