وأيضا فإن الرب تعالى يمكن أن يكون له من . [ ص: 60 ] صفات الكمال ما لا يعلمه العباد ، ولا يمكنهم نفيه لانتفاء الحاجة إليه
ولكن هذا السؤال يمكن تحريره على وجه آخر ، وهو أن يقال : الكرامية إنما أثبتوا ما أثبتوه لاحتياج الخلق إليه ، والقدرة والمشيئة الأزلية مكافية في حدوث المخلوقات المنفصلة ، كما هي كافية في حدوث ما قام بالذات، فيكون دليلهم على ذلك باطلا .
وهذا الكلام إنما يفيد -إن أفاد- إبطال هذا الدليل المعين، ولا يبطل دليلا آخر، ولا يبطل ثبوت المدلول ، فلا يجوز أن ينفي قيام الحوادث بذاته، لعدم ما يثبت ذلك ، بل الواجب فيما لا يعرف دليل ثبوته وانتفائه الوقف فيه .
ثم هم قد يقولون : صدور المفعولات المنفصلة من غير سبب حادث يقوم بالفاعل أمر ممتنع ، كصدور المفعولات بدون قدرة وإرادة للفاعل .
ويقولون أيضا : قد علم أن الله خالق للعالم ، والخلق ليس هو المخلوق ، إذ هذا مصدر، وهذا مفعول به ، والمصدر ليس هو المفعول به، فلا بد من إثبات خلق قائم به، ومن إثبات مخلوق منفصل عنه .
وهذا قول جمهور الناس ، وهو أشهر القولين عند أصحاب الأئمة الأربعة ، [أصحاب] : أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وهو قول جمهور الناس : أهل الحديث ، والصوفية ، وكثير من أهل الكلام -أو أكثرهم- وكثير من أساطين الفلاسفة -أو أكثرهم . [ ص: 61 ] وأحمد.
لكن النزاع بينهم في الخلق المغاير للمخلوق : هل هو قديم قائم بذاته؟ أو هو منفصل عنه؟ أو هو حادث قائم بذاته؟ وإذا كان حادثا فهل الحادث نوعه؟ أو أن الحوادث هي الأعيان الحادثة ، ونوع الحوادث قديم ، لتكون صفات الكمال قديمة لله، لم يزل ولا يزال متصفا بصفات الكمال؟
هذه الأقوال الأربعة قد قال كل قول طائفة . ويقولون أيضا : إن قيام هذه الأمور بذاته من صفات الكمال، وذلك أنا قد علمنا أن الله متكلم ، وأن المتكلم لا يكون متكلما إلا بكلام قائم بذاته، وأنه مريد ، ولا يكون مريدا إلا بإرادة قائمة بذاته، إذ ما قام بغيره من الكلام والإرادة لا يكون كلاما له ولا إرادة ، إذ الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل، لا على غيره، ويقولون: قد أخبر الله أنه إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ، و"أن" تدل على أن الفعل مستقبل ، فوجب أن يكون القول والإرادة حادثين بالسمع .
وبالجملة عامة ما يذكر في هذا الباب يعود إلى نوع تناقض من الكرامية ، وهو عمدة منازعيهم ، ليس معهم ما يعتمدون عليه إلا تناقضهم . وتناقض أحد المتنازعين لا يستلزم صحة قول الآخر، لجواز أن يكون الحق في قول ثالث، لا قول هذا ولا قول هذا، لا سيما إذا عرف أن هناك قولا ثالثا، وذلك القول يتضمن زوال الشبه القادحة في كل من القولين الضعيفين . [ ص: 62 ]