وهذا هو القسم الثاني، وهو إنكار الإنسان ما لا يحس في الدنيا.
وأما القسم الثالث، وهو أن الموجود هو ما يمكن الإحساس به، ولو في الآخرة، وأن ما أخبرت به الرسل من الغيب، كما أخبرت به عن الجنة والنار وعن الملائكة، بل وإخبارهم عن الله تعالى، هو مما يمكن معرفته بالحس، كالرؤية.
[ ص: 132 ]
فهذا قول جماهير أهل الإيمان بالرسل، وسلف الأمة وأئمتها، فإنهم متفقون على أن
nindex.php?page=treesubj&link=28725الله يرى في الآخرة عيانا،، كما يرى الشمس والقمر، وأنه لا يلزم من تعذر رؤية الشيء في حال تعذر رؤيته في حال أخرى، بل قد يرى الشيء في حال دون حال، كما أن الأنبياء يرون ما لا يراه غيرهم من الملائكة وغيرها، بل والجن يراهم كثير من الناس.
وإن ادعى أن من الموجودات القائمة بأنفسها ما لا يمكن أن يعرف بالإحساس في حال من الأحوال، فهذا قول باطل، ولا دليل له عليه، وهذا قول
nindex.php?page=treesubj&link=28725_28836الجهمية الذين ينكرون رؤية الله تعالى.
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على بطلان قولهم، وفساد قولهم يعلم بالعقل الصريح، كما يعلم بالنقل الصحيح، وهؤلاء في نفس الأمر من أجهل الناس وأضلهم، وإن كانوا عند أنفسهم من أعقل الناس وأعرفهم، فهم، كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=56الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه [سورة غافر: 56].
وكما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=13وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون [سورة البقرة: 13].
وقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=83فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون [سورة غافر: 83].
[ ص: 133 ]
وأما حجته على إثبات وجود ما ليس بمحسوس، فقد احتج بالكليات.
فيقال له: قولك: إن هذه المحسوسات يقع عليها اسم واحد بحسب معنى واحد، مثل اسم الإنسان، فإن وقوعه على زيد وعمرو بمعنى واحد موجود.
فيقال له: أتعني أن هذا المعنى الواحد الذي يشترك فيه زيد وعمرو، هو معنى واحد قائم بالعالم كالإنسان؟ كما أن لفظ "إنسان" قائم بالناطق، وكما أن خط زيد قائم باللوح الذي فيه الخط؟
أم تعني أن ذلك المعنى الواحد هو موجود في الخارج، في زيد وعمرو أو في غيرهما؟
أما الأول فصحيح، ولا حجة لك فيه.
وأما الثاني، فقولك في المعنى كقول من يطرد قولك، ويجعل لفظ "الإنسان" الواقع على زيد وعمرو موجودا في الخارج، قائما بزيد وعمرو، ويجعل الخط المطابق للفظ ثابتا في الخارج عن اللوح، قائما بزيد وعمرو، إذ كل عاقل يعلم أن الخط مطابق للفظ، وأن اللفظ مطابق للمعنى، وأن عموم المعنى الواحد كعموم اللفظ الواحد المطابق له.
وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي، وَهُوَ إِنْكَارُ الْإِنْسَانِ مَا لَا يُحِسُّ فِي الدُّنْيَا.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ، وَهُوَ أَنَّ الْمَوْجُودَ هُوَ مَا يُمْكِنُ الْإِحْسَاسُ بِهِ، وَلَوْ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الْغَيْبِ، كَمَا أَخْبَرَتْ بِهِ عَنِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَعَنِ الْمَلَائِكَةِ، بَلْ وَإِخْبَارُهُمْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، هُوَ مِمَّا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِالْحِسِّ، كَالرُّؤْيَةِ.
[ ص: 132 ]
فَهَذَا قَوْلُ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ، وَسَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28725اللَّهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ عِيَانًا،، كَمَا يُرَى الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَذُّرِ رُؤْيَةِ الشَّيْءِ فِي حَالِ تَعَذُّرِ رُؤْيَتِهِ فِي حَالٍ أُخْرَى، بَلْ قَدْ يُرَى الشَّيْءُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، كَمَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَرَوْنَ مَا لَا يَرَاهُ غَيْرُهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهَا، بَلْ وَالْجِنُّ يَرَاهُمْ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ.
وَإِنِ ادَّعَى أَنَّ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الْقَائِمَةِ بِأَنْفُسِهَا مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْرَفَ بِالْإِحْسَاسِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ، وَلَا دَلِيلَ لَهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ
nindex.php?page=treesubj&link=28725_28836الْجَهْمِيَّةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدِ اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ، وَفَسَادُ قَوْلِهِمْ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ الصَّرِيحِ، كَمَا يَعْلَمُ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ، وَهَؤُلَاءِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ وَأَضَلِّهِمْ، وَإِنْ كَانُوا عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَعْقَلِ النَّاسِ وَأَعْرَفِهِمْ، فَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=56الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ [سُورَةُ غَافِرٍ: 56].
وَكَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=13وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 13].
وَقَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=83فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [سُورَةُ غَافِرٍ: 83].
[ ص: 133 ]
وَأَمَّا حُجَّتُهُ عَلَى إِثْبَاتِ وُجُودِ مَا لَيْسَ بِمَحْسُوسٍ، فَقَدِ احْتَجَّ بِالْكُلِّيَّاتِ.
فَيُقَالُ لَهُ: قَوْلُكَ: إِنَّ هَذِهِ الْمَحْسُوسَاتِ يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمٌ وَاحِدٌ بِحَسَبِ مَعْنًى وَاحِدٍ، مِثْلَ اسْمِ الْإِنْسَانِ، فَإِنَّ وُقُوعَهُ عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو بِمَعْنًى وَاحِدٍ مَوْجُودٍ.
فَيُقَالُ لَهُ: أَتَعْنِي أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى الْوَاحِدَ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ زَيْدٌ وَعَمْرٌو، هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِالْعَالِمِ كَالْإِنْسَانِ؟ كَمَا أَنَّ لَفْظَ "إِنْسَانٌ" قَائِمٌ بِالنَّاطِقِ، وَكَمَا أَنَّ خَطَّ زَيْدٍ قَائِمٌ بِاللَّوْحِ الَّذِي فِيهِ الْخَطُّ؟
أَمْ تَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ، فِي زَيْدٍ وَعَمْرٍو أَوْ فِي غَيْرِهِمَا؟
أَمَّا الْأَوَّلُ فَصَحِيحٌ، وَلَا حُجَّةَ لَكَ فِيهِ.
وَأَمَّا الثَّانِي، فَقَوْلُكَ فِي الْمَعْنَى كَقَوْلِ مَنْ يَطْرُدُ قَوْلَكَ، وَيَجْعَلُ لَفْظَ "الْإِنْسَانِ" الْوَاقِعَ عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ، قَائِمًا بِزَيْدٍ وَعَمْرٍو، وَيَجْعَلُ الْخَطَّ الْمُطَابِقَ لِلَّفْظِ ثَابِتًا فِي الْخَارِجِ عَنِ اللَّوْحِ، قَائِمًا بِزَيْدٍ وَعَمْرٍو، إِذْ كُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْخَطَّ مُطَابِقٌ لِلَّفْظِ، وَأَنَّ اللَّفْظَ مُطَابِقٌ لِلْمَعْنَى، وَأَنَّ عُمُومَ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ كَعُمُومِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ الْمُطَابِقِ لَهُ.