ثم اختلافه بالنمو والاغتذاء مثل كبر الصغير من الحيوان والنبات، اختلاف آخر فيه من التغير والزيادة وغير ذلك، ما ليس في مجرد تغير اللون والحركة.
ثم يصير الماء بخارا والحطب دخانا أو رمادا: نوع آخر فيه انقلاب الحقيقة واستحالتها ما ليس في ذلك.
ثم إخراج الثمرات من الشجر، والإنسان من المني، والزرع من النبات، أمر آخر غير هذا كله، فإن الشجرة لم تنقص بخروج الثمرة منها ولا استحالت حقيقتها، وكذلك الأرض لم تنقص بخروج الزرع منها ولا استحالت حقيقتها.
وكذلك خروج الإنسان من أمه، وخروج البيضة من الدجاجة، ولكن خلق الفروج من البيضة، من جنس خلق الإنسان من المني. [ ص: 200 ]
مثل الماء تفرق حتى تصير أجزاؤه في غاية الصغر وهو ماء، وكذلك الزئبق ونحوه، فإذا استحالت بعد هواء لم يبق ماء ولا زئبق، ومن قال: إنه بعد انقلابه بقيت الأجزاء، كما تبقى إذا تصغرت أجزاؤه، فقد خالف الحس والعقل، ولا يعقل الماء ونحوه جزءا إلا وهو ماء، فإذا صار هواء لم يكن في الهواء جزء هو ماء، بل جزء الهواء هواء. والذي يعقل من اجتماع الأجزاء وافتراقها، أن تفترق مع بقاء حقيقتها،
وكذلك الحطب تكسر أجزاؤه إلى أن تتصاغر، فإذا صار رمادا، فأجزاء الرماد مخالفة لأجزاء الحطب، ليست هذه الأجزاء تلك، فبقاء الشيء مع تغير أعراضه شيء، وانقلاب حقيقته شيء آخر.
ولهذا تفرق اللغة والشرع بين هذا وهذا، وتجعل هذا جنسا مخالفا لهذا في جميع الأحكام، بخلاف ما إذا كانت حقيقته باقية وقد تبدلت أعراضها، فالحكم المعلق بالذهب والفضة إذا تعلق بعينه - كالربا مثلا - هو ثابت فيه، وإن تغيرت صوره وأشكاله، فسواء كان مجتمعا [ ص: 201 ] مضروبا أو مصوغا على أي صورة كان، أو مفترقا بالانكسار، بخلاف حكمه لما كان ترابا في المعدن، قبل أن يصير ذهبا وفضة.
وكذلك النوى حكمه وحقيقته غير حكم النخلة وحقيقتها، وأما الشجر والثمر فأبعد من هذا كله، لأنه لا نشهد هناك من انقلاب أجزاء الشجرة واستحالتها، ما نشهد من هذه المنقلبات، وإنما نشهد خروج ثمرة لها طعم ولون وريح، من خشبة مخالفة لها غاية المخالفة، مع أن تلك الخشبة قد تزيد وتنمي مع خروج الثمرة منها، وإن كان في ذلك استحالة لطينتها من الماء والهواء والتراب، لكن خلق الحيوان والنبات والمعدن من العناصر ليس هو من جنس استحالة هذه المولدات بعضها إلى بعض، لا سيما إذا كان بأفعالنا، بل كلما بعد التسبب بأفعالنا يكون خلقه أعجب، والإبداع للأعيان فيه أعظم.
وما كان أقرب إلى مفعولاتنا يكون أبعد من إبداع الأعيان، بل وعن انقلاب الحقائق إلى تغير الصفات، إلى أن تنتهي إلى مطلق الحركة، التي ليس فيها من تغير الذات شيء، كحركة أحدنا بالمشي والقيام والقعود، وحركة الكواكب، فإن جنس الحركة هو المقدور للآدميين ابتداء، وهو أبعد الأعراض والأحوال عن تغير الأعيان والحقائق، ولهذا لا يسمى هذا في اللغة المعروفة تغيرا أصلا، ولا يقول أحد عند الإطلاق للكواكب إذا كانت سائرة، وللإنسان إذا كان ماشيا: متغيرا، اللهم إلا مع قرينة تبين المراد، بخلاف ما إذا تغير لونه بحمرة أو [ ص: 202 ] صفرة، فإنهم قد يقولون: قد تغير، ويقولون: تغير الهواء إذا برد بعد السخونة، ولا يكادون يسمون مجرد هبوبه تغيرا، وإن سمي بذلك فهم يفرقون بين هذا وهذا.