[ ص: 173 ] ( فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ( 89 ) )
قد تقدم في سورة البقرة الكلام على وإنه قول الرجل في الكلام من غير قصد : لا والله ، بلى والله ، وهذا مذهب لغو اليمين وقيل : هو في الهزل . وقيل : في المعصية . وقيل : على غلبة الظن وهو قول الشافعي أبي حنيفة وأحمد . وقيل : اليمين في الغضب . وقيل : في النسيان . وقيل : هو الحلف على ترك المأكل والمشرب والملبس ونحو ذلك ، واستدلوا بقوله : ( لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم )
والصحيح أنه اليمين من غير قصد ; بدليل قوله : ( ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ) أي : بما صممتم عليه من الأيمان وقصدتموها ، فكفارته إطعام عشرة مساكين ؛ يعني : محاويج من الفقراء ، ومن لا يجد ما يكفيه .
وقوله : ( من أوسط ما تطعمون أهليكم ) قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة : أي من أعدل ما تطعمون أهليكم .
وقال : من أمثل ما تطعمون أهليكم . قال عطاء الخراساني ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن حجاج ، عن ، عن أبي إسحاق السبيعي الحارث ، عن علي قال : خبز ولبن ، خبز وسمن .
وقال ابن أبي حاتم : أنبأنا قراءة ، حدثنا يونس بن عبد الأعلى سفيان بن عيينة ، عن سليمان - يعني ابن أبي المغيرة - ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان الرجل يقوت بعض أهله قوت دون ، وبعضهم قوتا فيه سعة ، فقال الله تعالى : ( من أوسط ما تطعمون أهليكم ) أي : من الخبز والزيت .
وحدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ، عن وكيع إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر ، عن ابن عباس : ( من أوسط ما تطعمون أهليكم ) قال : من عسرهم ويسرهم .
وحدثنا عبد الرحمن بن خلف الحمصي ، حدثنا محمد بن شعيب - يعني ابن شابور - ، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن التميمي ، عن ليث بن أبي سليم ، عن عاصم الأحول عن رجل يقال له : عبد الرحمن ، عن ابن عمر أنه قال : ( من أوسط ما تطعمون أهليكم ) قال : الخبز واللحم ، والخبز والسمن ، والخبز واللبن ، والخبز والزيت ، والخبز والخل .
وحدثنا ، حدثنا علي بن حرب الموصلي أبو معاوية ، عن عاصم ، عن ابن سيرين ، عن ابن عمر [ ص: 174 ] في قوله : ( من أوسط ما تطعمون أهليكم ) قال : الخبز والسمن ، والخبز والزيت ، والخبز والتمر ، ومن أفضل ما تطعمون أهليكم : الخبز واللحم .
ورواه ابن جرير ، عن هناد كلاهما عن وابن وكيع أبي معاوية . ثم روى ابن جرير ، عن عبيدة والأسود وشريح القاضي ومحمد بن سيرين والحسن والضحاك وأبي رزين : أنهم قالوا نحو ذلك ، وحكاه ابن أبي حاتم ، عن مكحول أيضا .
واختار ابن جرير أن المراد بقوله : ( من أوسط ما تطعمون أهليكم ) أي : في القلة والكثرة .
ثم اختلف العلماء في مقدار ما يطعمهم ، فقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو سعيد ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن حجاج ، عن حصين الحارثي ، عن الشعبي ، عن الحارث ، عن علي [ رضي الله عنه ] في قوله : ( من أوسط ما تطعمون أهليكم ) قال : يغذيهم ويعشيهم .
وقال الحسن : يكفيه أن يطعم عشرة مساكين أكلة واحدة خبزا ولحما ، زاد ومحمد بن سيرين الحسن : فإن لم يجد فخبزا وسمنا ولبنا ، فإن لم يجد فخبزا وزيتا وخلا حتى يشبعوا .
وقال آخرون : يطعم كل واحد من العشرة نصف صاع من بر أو تمر ، ونحوهما . هذا قول عمر وعلي وعائشة ومجاهد والشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وميمون بن مهران وأبي مالك والضحاك والحاكم ومكحول وأبي قلابة . ومقاتل بن حيان
وقال أبو حنيفة : نصف صاع [ من ] بر ، وصاع مما عداه .
وقد قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن الثقفي ، حدثنا عبيد بن الحسن بن يوسف ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا زياد بن عبد الله بن الطفيل بن سخبرة ابن أخي عائشة لأمه ، حدثنا عمر بن يعلى ، عن ، عن المنهال بن عمرو سعيد بن جبير ابن عباس قال : كفر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر ، وأمر الناس به ، ومن لم يجد فنصف صاع من بر . عن
ورواه ابن ماجه ، عن العباس بن يزيد ، عن ، عن زياد بن عبد الله البكائي عمر بن عبد الله بن يعلى الثقفي ، عن به . المنهال بن عمرو
لا يصح هذا الحديث لحال عمر بن عبد الله هذا ، فإنه مجمع على ضعفه ، وذكروا أنه كان يشرب الخمر . وقال : متروك . الدارقطني
[ ص: 175 ]
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن إدريس ، عن داود - يعني ابن أبي هند - عن عكرمة ، عن ابن عباس : مد من بر - يعني لكل مسكين - ومعه إدامه .
ثم قال : وروي عن ابن عمر وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء وعكرمة وأبي الشعثاء والقاسم وسالم وأبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار والحسن ومحمد بن سيرين نحو ذلك . والزهري
وقال : الشافعي مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم لكل مسكين . ولم يتعرض للأدم - واحتج بأمر النبي صلى الله عليه وسلم للذي جامع في رمضان بأن يطعم ستين مسكينا من مكيل يسع خمسة عشر صاعا لكل واحد منهم مد . الواجب في كفارة اليمين
وقد ورد حديث آخر صريح في ذلك ، فقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا أحمد بن علي بن الحسن المقري ، حدثنا ، حدثنا محمد بن إسحاق السراج قتيبة بن سعيد ، حدثنا النضر بن زرارة الكوفي ، عن عبد الله بن عمر العمري ، عن نافع ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقيم كفارة اليمين مدا من حنطة بالمد الأول . عن
إسناده ضعيف ، لحال النضر بن زرارة بن عبد الأكرم الذهلي الكوفي نزيل بلخ قال فيه : هو مجهول مع أنه قد روى عنه غير واحد . وذكره أبو حاتم الرازي في الثقات وقال : روى عنه ابن حبان قتيبة بن سعيد أشياء مستقيمة ، فالله أعلم . ثم إن شيخه العمري ضعيف أيضا .
وقال : الواجب مد من بر ، أو مدان من غيره . والله أعلم . أحمد بن حنبل
وقوله : ( أو كسوتهم ) قال رحمه الله : لو دفع إلى كل واحد من العشرة ما يصدق عليه اسم الكسوة من قميص أو سراويل أو إزار أو عمامة أو مقنعة أجزأه ذلك . واختلف أصحابه في القلنسوة : هل تجزئ أم لا ؟ على وجهين ، فمنهم من ذهب إلى الجواز ، احتجاجا بما رواه الشافعي ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو سعيد الأشج وعمار بن خالد الواسطي ، قالا : حدثنا القاسم بن مالك عن محمد بن الزبير عن أبيه قال : سألت عمران بن حصين عن قوله : ( أو كسوتهم ) قال : لو أن وفدا قدموا على أميركم وكساهم قلنسوة قلنسوة ، قلتم : قد كسوا .
ولكن هذا إسناد ضعيف ; لحال محمد بن الزبير هذا ، والله أعلم . وهكذا حكى الشيخ في الخف وجهين أيضا ، والصحيح عدم الإجزاء . أبو حامد الاسفرايني
وقال مالك : لا بد أن يدفع إلى كل واحد منهم من الكسوة ما يصح أن يصلي فيه ، إن كان رجلا أو امرأة ، كل بحسبه . والله أعلم . وأحمد بن حنبل
وقال العوفي ، عن ابن عباس : عباءة لكل مسكين ، أو ثملة .
[ ص: 176 ]
وقال مجاهد : أدناه ثوب ، وأعلاه ما شئت .
وقال ليث عن مجاهد : يجزئ في كفارة اليمين كل شيء إلا التبان .
وقال الحسن وأبو جعفر الباقر وعطاء وطاوس وإبراهيم النخعي وحماد بن أبى سليمان وأبو مالك : ثوب ثوب .
وعن أيضا : ثوب جامع كالملحفة والرداء ، ولا يرى الدرع والقميص والخمار ونحوه جامعا . إبراهيم النخعي
وقال الأنصاري ، عن أشعث ، عن ابن سيرين والحسن : ثوبان .
وقال الثوري ، عن ، عن داود بن أبي هند : عمامة يلف بها رأسه ، وعباءة يلتحف بها . سعيد بن المسيب
وقال ابن جرير : حدثنا هناد ، حدثنا ابن المبارك ، عن عاصم الأحول ، عن ابن سيرين ، عن أبي موسى أنه حلف على يمين ، فكسا ثوبين من معقدة البحرين .
وقال ابن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا أحمد بن المعلى ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن مقاتل بن سليمان ، عن أبي عثمان ، عن أبي عياض عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : ( أو كسوتهم ) قال : " عباءة لكل مسكين " . حديث غريب .
وقوله : ( أو تحرير رقبة ) أخذ أبو حنيفة بإطلاقها ، فقال : تجزئ الكافرة كما تجزئ المؤمنة . وقال وآخرون : لا بد أن تكون مؤمنة . وأخذ تقييدها بالإيمان من كفارة القتل ; لاتحاد الموجب وإن اختلف السبب ولحديث الشافعي معاوية بن الحكم السلمي الذي هو في موطأ مالك ومسند وصحيح الشافعي مسلم : أنه . الحديث بطوله . ذكر أن عليه عتق رقبة ، وجاء معه بجارية سوداء ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أين الله؟ " قالت : في السماء . قال : " من أنا؟ " قالت : رسول الله . قال : " أعتقها فإنها مؤمنة "
فهذه أيها فعل الحانث أجزأ عنه بالإجماع . وقد بدأ بالأسهل فالأسهل ، فالإطعام أيسر من الكسوة ، كما أن الكسوة أيسر من العتق ، فرقي فيها من الأدنى إلى الأعلى . فإن لم يقدر المكلف على واحدة من هذه الخصال الثلاث كفر بصيام ثلاثة أيام ، كما قال تعالى : ( خصال ثلاث في كفارة اليمين فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام )
وروى ابن جرير ، عن سعيد بن جبير والحسن البصري أنهما قالا من وجد ثلاثة دراهم لزمه الإطعام وإلا صام .
وقال ابن جرير حاكيا عن بعض متأخري متفقهة زمانه أنه قال : جائز لمن لم يكن له فضل عن [ ص: 177 ] رأس مال يتصرف به لمعاشه ما يكفر به بالإطعام ، أن يصوم إلا أن يكون له كفاية ، ومن المال ما يتصرف به لمعاشه ، ومن الفضل عن ذلك ما يكفر به عن يمينه .
ثم اختار ابن جرير : أنه الذي لا يفضل عن قوته وقوت عياله في يومه ذلك ما يخرج به كفارة اليمين .
واختلف العلماء : أو يستحب ولا يجب ويجزئ التفريق؟ على قولين : أحدهما أنه لا يجب التتابع ، هذا منصوص هل يجب فيها التتابع في كتاب " الأيمان " ، وهو قول الشافعي مالك لإطلاق قوله : ( فصيام ثلاثة أيام ) وهو صادق على المجموعة والمفرقة ، كما في قضاء رمضان ; لقوله : ( فعدة من أيام أخر ) [ البقرة : 184 ] .
ونص في موضع آخر في " الأم " على وجوب التتابع ، كما هو قول الحنفية والحنابلة ; لأنه قد روي عن الشافعي أبي بن كعب وغيرهم أنهم كانوا يقرءونها : " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " .
قال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها : " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " .
وحكاها مجاهد والشعبي وأبو إسحاق ، عن . عبد الله بن مسعود
وقال إبراهيم : في قراءة : " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " . عبد الله بن مسعود
وقال الأعمش : كان أصحاب ابن مسعود يقرءونها كذلك .
وهذه إذا لم يثبت كونها قرآنا متواترا ، فلا أقل أن يكون خبرا واحدا ، أو تفسيرا من الصحابي ، وهو في حكم المرفوع .
وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن علي ، حدثنا محمد بن جعفر الأشعري ، حدثنا الهيثم بن خالد القرشي ، حدثنا يزيد بن قيس ، عن إسماعيل بن يحيى عن ابن عباس قال : لما نزلت آية الكفارات قال حذيفة : يا رسول الله ، نحن بالخيار؟ قال : " أنت بالخيار ، إن شئت أعتقت ، وإن شئت كسوت ، وإن شئت أطعمت ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات " .
وهذا حديث غريب جدا .
وقوله : ( ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم ) قال ابن جرير : معناه لا تتركوها بغير تكفير . ( كذلك يبين الله لكم آياته ) أي : يوضحها وينشرها ( لعلكم تشكرون )