( وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون ( 4 ) فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين ( 5 ) فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ( 6 ) فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين ( 7 ) ) .
يقول تعالى : ( وكم من قرية أهلكناها ) أي : بمخالفة رسلنا وتكذيبهم ، فأعقبهم ذلك خزي الدنيا موصولا بذل الآخرة ، كما قال تعالى : ( ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ) [ الأنعام : 10 ] . وقال تعالى : ( فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد ) [ الحج : 45 ] . [ ص: 388 ] وقال تعالى : ( وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين ) [ القصص : 58 ] .
وقوله : ( فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون ) أي : فكان منهم من جاءه أمر الله وبأسه ونقمته ) بياتا ) أي : ليلا ( أو هم قائلون ) من القيلولة ، وهي : الاستراحة وسط النهار . وكلا الوقتين وقت غفلة ولهو كما قال تعالى ( أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ) [ الأعراف : 97 ، 98 ] . وقال : ( أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءوف رحيم ) [ النحل : 45 - 47 ] .
وقوله : ( فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين ) أي : فما كان قولهم عند مجيء العذاب إلا أن اعترفوا بذنوبهم ، وأنهم حقيقون بهذا . كما قال تعالى : ( وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين ) [ الأنبياء : 11 - 15 ] .
وقال ابن جرير : في هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : " " ، حدثنا بذلك ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن أبي سنان ، عن عبد الملك بن ميسرة الزراد قال : قال رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عبد الله بن مسعود " قال : قلت ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم لعبد الملك : كيف يكون ذاك؟ قال : فقرأ هذه الآية : ( فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين ) .
وقوله : ( فلنسألن الذين أرسل إليهم ) الآية ، كقوله تعالى ( ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ) [ القصص : 65 ] وقوله : ( يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ) [ المائدة : 109 ] فالرب تبارك وتعالى يوم القيامة يسأل الأمم عما أجابوا رسله فيما أرسلهم به ، ويسأل الرسل أيضا عن إبلاغ رسالاته; ولهذا قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، في تفسير هذه الآية : ( فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ) قال : يسأل الله الناس عما أجابوا المرسلين ، ويسأل المرسلين عما بلغوا . .
وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن ، حدثنا أبو سعيد الكندي ، حدثنا المحاربي ، عن ليث ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " قال كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، فالإمام يسأل عن الرجل [ ص: 389 ] والرجل يسأل عن أهله والمرأة تسأل عن بيت زوجها ، والعبد يسأل عن مال سيده الليث : وحدثني ابن طاوس ، مثله ، ثم قرأ : ( فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ) .
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين بدون هذه الزيادة .
وقال ابن عباس : ( فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين ) يوضع الكتاب يوم القيامة ، فيتكلم بما كانوا يعملون ، ( وما كنا غائبين ) يعني : أنه تعالى يخبر عباده يوم القيامة بما قالوا وبما عملوا ، من قليل وكثير ، وجليل وحقير; لأنه تعالى شهيد على كل شيء ، لا يغيب عنه شيء ، ولا يغفل عن شيء ، بل هو العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور ، ( وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) [ الأنعام : 59 ] .