الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 635 ] ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائتين

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن الجوزي : في المحرم من هذه السنة طلع نجم ذو جمة ، ثم صارت الجمة ذؤابة . قال : وفي هذه السنة غار ماء النيل وهذا شيء لم يعهد مثله ولا بلغنا في الأخبار السالفة ، فغلت الأسعار بمصر بسبب ذلك جدا . قال : وفيها خلع على عبد الله بن سليمان بن وهب بالوزارة . وقال : في المحرم منها قدم الموفق أبو أحمد من الغزو فتلقاه الناس إلى النهروان فدخل بغداد وهو مريض بالنقرس ، فاستمر في داره في أوائل صفر ، ومات بعد أيام كما ستأتي ترجمته في هذه السنة . قال ابن الجوزي : وفي هذه السنة تحركت القرامطة ، قبحهم الله ، وهم فرقة من الزنادقة الملاحدة أتباع الفلاسفة من الفرس الذين يعتقدون نبوة زرادشت ومزدك ، وكانا يبيحان المحرمات ، ثم هم بعد ذلك أتباع كل ناعق إلى باطل ، وأكثر ما يدخلون من جهة الرافضة ، لأنهم أقل الناس عندهم وعند غيرهم عقولا ، ويقال لهم : الإسماعيلية ; لانتسابهم إلى إسماعيل الأعرج بن جعفر الصادق . ويقال لهم : القرامطة ، قيل : نسبة إلى قرمط بن الأشعث البقار . وقيل : إن رئيسهم كان في أول دعوته يأمر من اتبعه بخمسين صلاة في كل يوم وليلة ليشغلهم بذلك عما يريد تدبيره من المكيدة . ثم اتخذ نقباء اثني عشر ، وأسس لأتباعه دعوة ومسلكا ، ودعا إلى إمام من أهل البيت .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 636 ] ويقال لهم : الباطنية ; لأنهم يظهرون الرفض ويبطنون الكفر المحض . والخرمية والبابكية ، نسبة إلى بابك الخرمي الذي ظهر في أيام المعتصم فلم يزل يبعث خلفه الجيوش حتى جيء به أسيرا فقتله كما ذكرنا فيما سبق . ويقال لهم : المحمرة ; نسبة إلى صبغ الحمرة شعارا ، مضاهاة لسواد بني العباس ، ويقال لهم : التعليمية ; نسبة إلى التعلم من الإمام المعصوم ، وترك الرأي ومقتضى العقل . ويقال لهم : السبعية ; نسبة إلى القول بأن الكواكب السبعة المتحيزة السيارة مدبرة لهذا العالم فيما يزعمون ، لعنهم الله . وهي القمر في الأولى ، وعطارد في الثانية ، والزهرة في الثالثة ، والشمس في الرابعة ، والمريخ في الخامسة ، والمشتري في السادسة ، وزحل في السابعة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن الجوزي : وقد بقي من البابكية جماعة يقال : إنهم يجتمعون في كل سنة ليلة هم ونساؤهم ، ثم يطفئون المصباح وينتهبون النساء ، فمن وقع في يده امرأة حلت له . ويقولون : هذا اصطياد مباح . لعنهم الله . وقد بسط أبو الفرج بن الجوزي في هذا الموضع من تاريخه المسمى بالمنتظم تفصيل قولهم ، لعنهم الله ، وقد سبقه إلى ذلك القاضي أبو بكر الباقلاني المتكلم المشهور في كتابه " هتك الأستار وكشف الأسرار " في الرد على الباطنية ، ورد على كتابهم الذي جمعه بعض قضاتهم بديار مصر في أيام الفاطميين الذي سماه " البلاغ الأعظم والناموس الأكبر " جعله ست عشرة درجة ، أول درجة أن يدعو من يجتمع به أولا - إن كان من أهل السنة - إلى القول بتفضيل علي على عثمان ، [ ص: 637 ] ثم ينتقل إذا وافقه على ذلك إلى تفضيل علي على الشيخين أبي بكر وعمر ، ثم يترقى بعد ذلك إلى سبهما لأنهما ظلما عليا وأهل البيت ، ثم يترقى به إلى تجهيل الأمة وتخطئتها في موافقة أكثرهم على ذلك ، ثم يشرع في القدح في دين الإسلام من حيث هو . وقد ذكر لمخاطبته لمن يريد أن يخاطبه بذلك شبها وضلالات ، لا تروج إلا على كل غبي جاهل شقي . كما قال تعالى والسماء ذات الحبك إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك [ الذاريات : 7 - 9 ] أي يضل به من هو ضال . وقال تعالى فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم [ الصافات : 161 - 163 ] وقال تعالى : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون [ الأنعام : 112 - 113 ] والآيات في هذا المعنى كثيرة ، ومضمونها أن الجهل والضلال لا ينقاد لها إلا شرار الناس كما قال بعض الشعراء :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إن هو مستحوذا على أحد إلا على أضعف المجانين

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم بعد هذا كله لهم مقامات في الكفر والجهل والسخافة والرعونة ما لا ينبغي لضعيف عقل أو دين أو تصور سماعه ، مما فتح عليهم إبليس من الأبواب وأنواع الجهالات ، وربما أفاد بعضهم إبليس أشياء لم تكن عنده كما قال بعضهم :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 638 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكنت امرأ من جند إبليس برهة     من الدهر حتى صار إبليس من جندي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      والمقصود أن هذه الطائفة تحركت في هذه السنة ، ثم استفحل أمرهم وتفاقم الحال بهم ، على ما سنذكره ، حتى آل الحال إلى أن دخلوا المسجد الحرام فسفكوا فيه دماء الحجيج في وسط المسجد حول الكعبة المكرمة وكسروا الحجر الأسود واقتلعوه من موضعه ، وذهبوا به إلى بلادهم في سنة سبع عشرة وثلاثمائة ، ثم لم يزل عندهم إلى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة ، فمكث غائبا عن موضعه ثنتين وعشرين سنة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      واتفق في هذه السنة شيئان ; أحدهما ظهور هؤلاء ، والثاني موت حسام الإسلام وناصر الدين أبي أحمد الموفق ، تغمده الله برحمته ، وأسكنه بحبوحة جنته بمنه وكرمه ، لكن أبقى الله للمسلمين بعده ولده أبا العباس أحمد ابن الموفق الملقب بالمعتضد . وكان شهما شجاعا فاتكا كريما جوادا ممدحا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وهذه ترجمة أبي أحمد الموفق رحمه الله

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      هو الأمير الناصر لدين الله الموفق بالله أبو أحمد محمد - طلحة - بن المتوكل على الله جعفر بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد ، كان مولده في يوم الأربعاء لليلتين خلتا من ربيع الأول سنة تسع وعشرين ومائتين ، وكان أخوه المعتمد حين صارت إليه الخلافة قد عهد إليه بالولاية بعد أخيه جعفر ، ولقبه الموفق بالله ، ثم لما قتل صاحب الزنج وكسر جيشه تلقب بناصر دين الله ، وصار إليه العقد [ ص: 639 ] والحل والولاية والعزل ، وإليه يجبى الخراج . وكان يخطب له على المنابر ، فيقال : اللهم أصلح الأمير الناصر لدين الله أبا أحمد الموفق بالله ولي عهد المسلمين أخا أمير المؤمنين . ثم اتفق موته قبل أخيه المعتمد بستة أشهر ، رحمه الله . وكان غزير العقل حسن التدبير كريما جوادا ممدحا شجاعا مقداما رئيسا ، حسن المحادثة والمجالسة عادلا حسن السيرة ، يجلس للمظالم وعنده القضاة فينصف المظلوم من الظالم ، وكان عالما بالأدب والنسب والفقه وسياسة الملك ، وغير ذلك ، وله محاسن ومآثر كثيرة جدا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان سبب موته أنه أصابه مرض النقرس في السفر ، ثم قدم إلى بغداد وهو عليل فاستقر في داره في أوائل صفر ، وقد تزايد به المرض وتورمت رجله حتى عظمت جدا ، وكان يوضع عليها الأشياء المبردة كالثلج ونحوه ، وكان يحمل سريره أربعون رجلا بالنوبة ، عشرون عشرون . فقال لهم ذات يوم : ما أظنكم إلا قد مللتم مني فيا ليتني كواحد منكم آكل كما تأكلون ، وأشرب كما تشربون وأرقد كما ترقدون ، في عافية . وقال أيضا : في ديواني مائة ألف مرتزق ليس فيهم أسوأ حالا مني . ثم كانت وفاته في القصر الحسيني ليلة الخميس لثمان بقين من صفر . قال ابن الجوزي : وله سبع وأربعون سنة تنقص شهرا وأياما .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما توفي أبو أحمد الموفق ، اجتمع الأمراء على أخذ البيعة بولاية العهد من بعده لولده أبي العباس أحمد ، فبايع له المعتمد بولاية العهد بعد ابنه [ ص: 640 ] المفوض وخطب له على المنابر بعد المفوض . وجعل إليه ما كان إلى أبيه من الولاية والعزل والقطع والوصل والعقد والحل ، ولقب المعتضد بالله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية