ثم ركب السلطان في جحافله إلى الحصن الذي كانت الفرنج قد بنوه في العام الماضي وحفروا فيه بئرا عينا معينا ، وسلموه إلى الداوية ، فقصده السلطان فحاصره ونقبه من جميع جهاته ، وألقى فيه النيران فجعله دكا وخربه إلى الأساس ، وغنم جميع ما فيه من الحواصل ، فكان فيه مائة ألف قطعة من السلاح ، ومن المأكل شيء كثير ، وأخذ منه سبعمائة أسير ، فقتل بعضا وأرسل إلى دمشق الباقين ، ثم عاد إلى دمشق مؤيدا منصورا ، غير أنه مات من أمرائه عشرة بسبب ما نالهم من الحر والوباء في مدة الحصار ، وكانت أربعة عشر يوما ، وعاد الناس إلى زيارة مشهد يعقوب على عادتهم ، وقد امتدحه الشعراء فقال بعضهم :
[ ص: 538 ]
بجدك أعطاف القنا تتعطف وطرف الأعادي دون مجدك يطرف شهاب هدى في ظلمة الشرك ثاقب
وسيف إذا ما هزه الله مرهف وقفت على حصن المخاض وإنه
لموقف حق لا يوازيه موقف فلم يبد وجه الأرض بل حال دونه
رجال كآساد الشرى وهي تزحف وجرداء سلهوب ودرع مضاعف
وأبيض هندي ولدن مثقف وما رجعت أعلامك الصفر ساعة
إلى أن غدت أكبادها السود ترجف كبا من أعاليه صليب وبيعة
وشاد به دين حنيف ومصحف صليبة عباد الصليب ومنزل
النزال لقد غادرته وهو صفصف أتسكن أوطان النبيين عصبة
تمين لدى أيمانها وهي تحلف نصحتكم والنصح في الدين واجب
ذروا بيت يعقوب فقد جاء يوسف
هلاك الفرنج أتى عاجلا وقد آن تكسير صلبانها
ولو لم يكن قد دنا حتفها لما عمرت بيت أحزانها
وفيها أقطع السلطان صلاح الدين لابن أخيه عز الدين فروخشاه بن شاهنشاه ابن أيوب مدينة بعلبك . وأغار فيها على صفد وأعمالها ، فقتل طائفة كبيرة من مقاتليها ورجالها ، وكان فروخشاه من الصناديد الأبطال المشهورين المشكورين في النزال .
وفيها حج القاضي الفاضل من دمشق وعاد إلى مصر ، فقاسى في الطريق أهوالا ، ولقي برحا وتعبا وكلالا ، وكان في العام الماضي قد حج من مصر وعاد إلى الشام ولكن كان أمره فيه أسهل من هذا العام .
وفيها كانت زلزلة عظيمة انهدم بسببها قلاع وقرى ، ومات خلق كثير فيها من الورى ، وسقط من رءوس الجبال صخور كبار ، وصادمت بين الجبال في البراري والقفار ، مع بعد ما بين الجبال من الأقطار . وفيها أصاب الناس غلاء [ ص: 540 ] شديد وفناء شريد وجهد جهيد ، فمات خلق كثير من الخلائق بهذا وهذا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
وشيء من ترجمته وفاة المستضيء بأمر الله
كان ابتداء مرضه في أواخر شوال من هذه السنة فأرادت زوجته أن تكتم ذلك فلم يمكنها ، ووقعت فتنة كبيرة ببغداد ونهبت العوام دورا كثيرة ، وأموالا جزيلة ، فلما كان يوم الجمعة الثاني والعشرين من شوال خطب لولي العهد أبي العباس أحمد بن المستضيء ، وهو الخليفة الناصر لدين الله ، وكان يوما مشهودا نثر الذهب فيه على الخطباء والمؤذنين ومن حضر ذلك ، عند ذكره على المنبر والتنويه باسمه في العشر .
فلما كان يوم السبت سلخ شوال مات الخليفة المستضيء بأمر الله ، وكان مرضه بالحمى ابتدأ بها في يوم عيد الفطر ، ولم يزل الأمر يتزايد به حتى استكمل في مرضه شهرا ، فمات ، رحمه الله سلخ شوال ، وله من العمر تسع وثلاثون سنة ، وكانت مدة خلافته تسع سنين وثلاثة أشهر وسبعة عشر يوما ، وغسل وصلي عليه من الغد . ودفن بدار النصر التي بناها ، وذلك عن وصيته التي [ ص: 541 ] أوصاها ، وترك من بعده ولدين ; أحدهما ولي عهده وهو عدة الدين والدنيا أبو العباس أحمد الناصر لدين الله ، والآخر أبو منصور هاشم ، وقد وزر له جماعة من الرؤساء ، وكان من خيار الخلفاء ، أمارا بالمعروف نهاء عن المنكر ، وضع عن الناس المكوسات والضرائب ، ودرأ عنهم البدع والمصائب ، وكان حليما وقورا كريما ، فرحمه الله تعالى وبل ثراه وجعل الجنة مأواه . وبويع بالخلافة من بعده لولده الناصر .