[ ص: 530 ] ثم دخلت سنة ست وسبعين وستمائة
فيها كانت الملك الظاهر ركن الدين بيبرس ، صاحب البلاد المصرية والشامية والحلبية وغير ذلك ، وأقام ولده وفاة ، ناصر الدين أبا المعالي محمد بركة خان الملقب بالملك السعيد من بعده ، ووفاة الشيخ محيي الدين النووي إمام الشافعية فيها في اليوم السابع من المحرم منها .
ودخل السلطان الملك الظاهر من بلاد الروم ، وقد كسر التتار على البلستين ، ورجع مؤيدا منصورا ، فدخل دمشق وكان يوم دخوله يوما مشهودا ، فنزل بالقصر الأبلق الذي بناه غربي دمشق بين الميدانين الأخضرين ، وتواترت الأخبار إليه بأن أبغا جاء إلى المعركة ، ونظر إليها ، وتأسف على من قتل من المغول ، وأمر بقتل البرواناه ، وذكروا أنه قد عزم على قصد الشام ، فأمر السلطان بجمع الأمراء ، وضرب مشورة ، فاتفق مع الأمراء على ملاقاته حيث كان ، وتقدم بضرب الدهليز على القصر ، ثم جاء الخبر بأن أبغا قد رجع إلى بلاده ، فأمر برد الدهليز ، وأقام بالقصر الأبلق يجتمع عنده الأعيان والأمراء والدولة في أسر حال ، وأنعم بال . وأما أبغا فإنه أمر بقتل البرواناه - وكان نائبه على بلاد الروم - وكان اسمه معين الدين سليمان بن علي بن محمد بن حسن ، وإنما قتله لأنه اتهمه بممالأته للملك الظاهر ، وزعم أنه هو الذي حسن له دخول [ ص: 531 ] بلاد الروم ، وكان البرواناه شجاعا حازما كريما جوادا ، وله ميل إلى الملك الظاهر ، وكان قد جاوز الخمسين لما قتل .
ثم لما كان يوم السبت خامس عشر المحرم توفي ، الملك القاهر بهاء الدين عبد الملك ابن السلطان المعظم عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب عن أربع وستين سنة ، وكان رجلا جيدا سليم الصدر ، كريم الأخلاق ، لين الكلمة ، كثير التواضع ، يعاني ملابس العرب ومراكبهم ، وكان معظما في الدولة شجاعا مقداما ، وقد روى عن ابن اللتي ، وأجاز . قال للبرزالي البرزالي : ويقال : إنه سم . وذكر غيره أن السلطان الملك الظاهر سمه في كأس ثم ناوله إياه ، فشربه وقام السلطان إلى المرتفق ، ثم عاد وأخذ الساقي الكأس من يد القاهر ، فملأه وناوله السلطان الظاهر والساقي لا يشعر بشيء مما جرى ، وأنسى الله السلطان ذلك الكأس ، أو ظن أنه غيره لأمر يريده الله ويقضيه ، وكان قد بقي في الكأس بقية كثيرة من ذلك السم ، فشرب الظاهر ما في الكأس ، ولم يشعر حتى شربه ، فاشتكى بطنه من ساعته ، ووجد الوهج والحر والكرب الشديد من فوره ، وأما القاهر فإنه حمل إلى منزله وهو مغلوب ، فمات من ليلته ، وتمرض الظاهر من ذلك أياما حتى كانت وفاته يوم الخميس بعد الظهر في السابع والعشرين من المحرم بالقصر الأبلق ، وكان ذلك يوما عظيما على الأمراء ، وحضر نائب السلطنة عز الدين أيدمر وكبار الأمراء والدولة ، فصلوا عليه سرا ، وجعلوه في تابوت ، ورفعوه إلى القلعة من السور ، وجعلوه في بيت من بيوت البحرية إلى أن نقل إلى تربته التي بناها ولده له بعد موته ، وهي دار العقيقي تجاه العادلية الكبيرة ، ليلة الجمعة خامس رجب من هذه السنة ، وكتم موته ، فلم يعلم جمهور [ ص: 532 ] الناس به ، حتى إذا كان العشر الأخير من ربيع الأول ، وجاءت البيعة لولده السعيد من مصر ، حزن الناس عليه حزنا شديدا ، وترحموا عليه ترحما كثيرا ، وجددت البيعة أيضا بدمشق ، وجاء تقليد النيابة بالشام مجددا إلى عز الدين أيدمر نائبها .
وقد كان الملك الظاهر شهما شجاعا ، عالي الهمة ، بعيد الغور ، مقداما جسورا ، معتنيا بأمر السلطنة ، يشفق على الإسلام ، متحليا بالملك ، له قصد صالح في نصرة الإسلام وأهله ، وإقامة شعار الملك ، واستمرت أيامه من يوم الأحد سابع عشر ذي القعدة سنة ثمان وخمسين إلى هذا الحين ، ففتح في هذه المدة : فتوحات كثيرة قيسارية وأرسوف ويافا والشقيف وأنطاكية وبغراس وطبرية والقصير وحصن الأكراد وحصن عكار والقرين وصافيتا وغير ذلك من الحصون المنيعة التي كانت بأيدي الفرنج ، ولم يدع مع الإسماعيلية شيئا من الحصون ، وناصف الفرنج على المرقب وبانياس وبلاد أنطرطوس ، وسائر ما بقي [ ص: 533 ] بأيديهم من البلاد والحصون ، وولى في نصيبه مما ناصفهم عليه النواب والعمال ، وفتح قيسارية من بلاد الروم ، وأوقع بالروم والمغول على البلستين بأسا لم يسمع بمثله من دهور متطاولة ، واستعاد من صاحب سيس بلادا كثيرة ، وجاس خلال ديارهم وحصونهم ، واسترد من أيدي المتغلبين من المسلمين بعلبك وبصرى وصرخد وحمص وعجلون والصلت وتدمر والرحبة وتل باشر وغيرها ، والكرك والشوبك ، وفتح بلاد النوبة بكمالها من بلاد السودان ، وانتزع بلادا من التتار كثيرة منها شيزر والبيرة ، واتسعت مملكته من الفرات إلى أقصى بلاد النوبة ، وعمر شيئا كثيرا من الحصون والمعاقل والجسور على الأنهار الكبار ، وبنى دار الذهب بقلعة الجبل وبنى قبة على اثني عشر عمودا ملونة مذهبة ، وصور فيها صور خاصكيته وأشكالهم ، وحفر أنهارا كثيرة وخلجانات ببلاد مصر ، منها نهر السردوس ، وبنى جوامع كثيرة ومساجد عديدة ، وجدد بناء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين احترق ، ووضع الدرابزينات حول الحجرة الشريفة ، وعمل فيه منبرا وسقفه بالذهب ، وجدد المارستان بالمدينة ، وجدد قبر الخليل عليه السلام ، وزاد في زاويته وما يصرف إلى المقيمين ، وبنى على المكان المنسوب إلى قبر موسى عليه السلام قبة قبلي أريحا ، وجدد بالقدس أشياء حسنة ، من ذلك قبة السلسلة ، ورمم سقف الصخرة ، وغيرها وبنى بالقدس خانا هائلا بماملا ، ونقل إليه باب قصر الخلفاء الفاطميين من مصر ، وعمل فيه طاحونا [ ص: 534 ] وفرنا وبستانا ، وجعل للواردين إليه أشياء تصرف إليهم في نفقة وإصلاح أمتعتهم ، رحمه الله تعالى . وبنى على قبر أبي عبيدة بالقرب من عمتا مشهدا ، ووقف عليه أشياء للواردين إليه ، وعمر جسر دامية ، وجدد قبر جعفر الطيار بناحية الكرك ، ووقف على الزائرين له شيئا كثيرا ، وجدد قلعة صفد وجامعها ، وجدد جامع الرملة ، وغيرها في كثير من البلاد التي كانت الفرنج قد أخذتها وخربت جوامعها ومساجدها ، وبنى بحلب دارا هائلة ، وبدمشق القصر الأبلق والمدرسة الظاهرية وغيرها ، وضرب الدراهم والدنانير الجيدة الخالصة على النصح والمعاملة الجيدة الجارية بين الناس ، فرحمه الله .
وله من الآثار الحسنة والأماكن ما لم يبن في زمن الخلفاء وملوك بني أيوب ، مع اشتغاله بالجهاد في سبيل الله ، واستخدم من الجيوش شيئا كثيرا ، ورد إليه نحو من ثلاثة آلاف من المغول فأقطعهم وأمر كثيرا منهم ، وكان مقتصدا في ملبسه ومطعمه ، وكذلك جيشه ، وهو الذي أنشأ الدولة العباسية بعد دثورها ، وبقي الناس بلا خليفة نحوا من ثلاث سنين ، وهو الذي أقام من كل مذهب قاضيا مستقلا قاضي قضاة .
وكان - رحمه الله - متيقظا شهما شجاعا ، لا يفتر عن الأعداء ليلا ولا نهارا ، بل هو مناجز لأعداء الإسلام وأهله ، ولم شعثه واجتماع شمله .
وبالجملة ، وشجا في حلوق المارقين من أقامه الله في هذا الوقت المتأخر عونا ونصرا للإسلام وأهله الفرنج والتتار والمشركين . وأبطل الخمور ، ونفى [ ص: 535 ] الفساق من البلاد ، وكان لا يرى شيئا من الفساد والمفاسد إلا سعى في إزالته بجهده وطاقته . وقد ذكرنا في سيرته ما أرشد إلى حسن طويته وسريرته ، وقد جمع له كاتبه ابن عبد الظاهر سيرة مطولة ، وكذلك ابن شداد أيضا .
وقد ترك من الأولاد عشرة; ثلاثة ذكور وسبعة إناث ، ومات وعمره ما بين الخمسين إلى الستين ، وله أوقاف وصلات وصدقات ، تقبل الله منه الحسنات ، وتجاوز له عن السيئات . والله سبحانه أعلم .
وقام في الملك بعده ولده السعيد بمبايعة أبيه له في حال حياته ، وكان عمر السعيد يومئذ دون العشرين سنة ، وهو من أحسن الأشكال وأتم الرجال .
وفي صفر وصلت الهدايا من الفنش مع رسله إلى الديار المصرية ، فوجدوا السلطان قد مات ، وقد أقيم الملك السعيد ولده مكانه ، والدولة لم تتغير ، والمعرفة بعده ما تنكرت ، ولكن البلاد قد فقدت أسدها بل أسدها وأشدها ، بل الذي بلغ أشدها ، وإذا انفتحت ثغرة من سور الإسلام سدها ، وكلما انحلت عقدة من عرى العزائم شدها ، وكلما رامت فرقة مارقة من طوائف الطغام أن تلج إلى حومة الإسلام صدها وردها ، فسامحه الله ، وبل بالرحمة ثراه ، وجعل الجنة متقلبه ومثواه .
وكانت العساكر الشامية قد سارت إلى الديار المصرية ، ومعهم محفة يظهرون أن السلطان فيها مريض ، حتى وصلوا إلى القاهرة فجددوا البيعة للسعيد بعدما أظهروا موت الملك السديد الذي هو إن شاء الله شهيد .
[ ص: 536 ] وفي يوم الجمعة السابع والعشرين من صفر خطب في جميع الجوامع بالديار المصرية للملك السعيد ، وصلى على والده الملك الظاهر ، واستهلت عيناه بالدموع .
وفي منتصف ربيع الأول ركب الملك السعيد بالعصائب على عادة والده ، وبين يديه الجيش بكماله المصري والشامي ، حتى وصل إلى الجبل الأحمر ، وفرح الناس به فرحا شديدا ، وعمره يومئذ تسع عشرة سنة ، وعليه أبهة الملك ورياسة السلطنة .
وفي يوم الاثنين رابع جمادى الأولى فتحت مدرسة الأمير شمس الدين آقسنقر الفارقاني بالقاهرة ، بحارة الوزيرية على مذهب أبي حنيفة ، وعمل فيها مشيخة حديث وقارئ . وبعده بيوم عقد عقد ابن الخليفة المستمسك بالله ابن الحاكم بأمر الله على ابنة الخليفة المستنصر بن الظاهر ، وحضر والده والسلطان ووجوه الناس .
وفي يوم السبت تاسع جمادى الأولى شرع في بناء الدار التي تعرف بدار العقيقي تجاه العادلية ، لتجعل مدرسة وتربة للملك الظاهر ، ولم تكن قبل ذلك إلا دارا للعقيقي ، وهي المجاورة لحمام العقيقي ، وأسس أساس التربة في خامس جمادى الآخرة ، وأسست المدرسة أيضا .
وفي رمضان طلعت سحابة عظيمة بمدينة صفد لمع منها برق شديد ، [ ص: 537 ] وسطع منها لسان نار ، وسمع منها صوت شديد هائل ، ووقع منها على منارة صفد صاعقة شقتها من أعلاها إلى أسفلها شقا يدخل الكف فيه .