والقرية التي أتيا أهلها إنطاكية أو الأبلة أو بجزيرة الأندلس وهي الجزيرة الخضراء ، أو برقة أو أبو حوران بناحية أذربيجان ، أو ناصرة من أرض الروم أو قرية بأرمينية أقوال مضطربة بحسب اختلافهم في أي ناحية من الأرض كانت قصة موسى والله أعلم بحقيقة ذلك . وفي الحديث أنهما كانا يمشيان على مجالس أولئك القوم يستطعمانهم ، وهذه عبرة مصرحة بهوان الدنيا على الله تعالى . وتكرر لفظ ( أهل ) على سبيل التوكيد ، وقد يظهر له فائدة عن التوكيد وهو أنهما حين ( أتيا أهل قرية ) لم يأتيا جميع أهل القرية إنما أتيا بعضهم ، فلما قال ( استطعما ) احتمل أنهما لم يستطعما إلا ذلك البعض الذي أتياه فجيء بلفظ أهلها ليعم جميعهم وأنهم يتبعونهم واحدا واحدا بالاستطعام ، ولو كان التركيب استطعامهم لكان عائدا على البعض المأتي .
وقرأ الجمهور " يضيفوهما " بالتشديد من ضيف . وقرأ ابن الزبير والحسن وأبو رجاء وأبو رزين وابن محيصن وعاصم في رواية المفضل وأبان بكسر الضاد وإسكان الياء من أضاف ، كما تقول ميل وأمال ، وإسناد الإرادة إلى الجدار من المجاز البليغ والاستعارة البارعة ، وكثيرا ما يوجد في كلام العرب إسناد أشياء تكون من أفعال العقلاء إلى ما لا يعقل من الحيوان ، وإلى الجماد ، أو الحيوان الذي لا يعقل مكان العاقل لكان صادرا منه ذلك الفعل . وقد أكثر وغيره من إيراد الشواهد على ذلك ومن له أدنى مطالعة لكلام العرب لا يحتاج إلى شاهد في ذلك . الزمخشري
قال : ولقد بلغني أن بعض المحرفين لكلام الله ممن لا يعلم كان يجعل الضمير الزمخشري للخضر ؛ لأن ما كان فيه من آفة الجهل وسقم الفهم أراه أعلى الكلام طبقة أدناه منزلة ، فتمحل ليرده إلى ما هو عنده أصح وأفصح ، وعنده أن ما كان أبعد من المجاز أدخل في الإعجاز انتهى . وما ذكره أهل أصول الفقه عن أبي بكر محمد بن داود الأصبهاني من أنه ينكر لعله لا يصح عنه ، وكيف يكون ذلك وهو أحد الأدباء الشعراء الفحول المجيدين في النظم والنثر . المجاز في القرآن
[ ص: 152 ] وقرأ الجمهور " ينقض " ، أي : يسقط من انقضاض الطائر ، ووزنه انفعل نحو انجر . قال صاحب اللوامح : من القضة وهي الحصى الصغار ، ومنه طعام قضض إذا كان فيه حصى ، فعلى هذا " يريد أن ينقض " ، أي : يتفتت فيصير حصاة انتهى . وقيل : وزنه افعل من النقض كاحمر . وقرأ أبي " ينقض " بضم الياء وفتح القاف والضاد مبنيا للمفعول من نقضته وهي مروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وفي حرف عبد الله وقراءة ( يريد لينقض ) كذلك إلا أنه منصوب بأن المقدرة بعد اللام . وقرأ الأعمش علي وعكرمة وأبو شيخ خيوان بن خالد الهنائي وخليد بن سعد : ( ينقاص ) بالصاد غير معجمة مع الألف ، ووزنه ينفعل اللازم من قاص يقيص إذا كسرته تقول : قصيته فانقاص . قال ويحيى بن يعمر ابن خالويه : وتقول العرب : انقاصت السن إذا انشقت طولا . قال : منقاص ومنكثب . وقيل : إذا تصدعت كيف كان . ومنه قول ذو الرمة أبي ذؤيب :
فراق كقيص السن فالصبر إنه لكل أناس عثرة وجبور
وقرأ : ( ينقاض ) بألف وضاد معجمة وهي من قولهم : قضته - معجمة - فانقاض ، أي : هدمته فانهدم . قال الزهري أبو علي : والمشهور عن بصاد غير معجمة . الزهري
( فأقامه ) الظاهر أنه لم يهدمه وبناه كما ذهب إليه بعضهم من أنه هدمه وقعد يبنيه . ووقع هذا في مصحف عبد الله وأيد بقوله " لتخذت عليه أجرا " ؛ لأن بناءه بعد هدمه يستحق عليه أجرا . وقال ابن جبير : مسحه بيده وأقامه فقام . وقيل : أقامه بعمود عمده به . وقال مقاتل : سواه بالشيد ، أي : لبسه به وهو الجيار . وعن : دفعه بيده فاستقام وهذا أليق بحال الأنبياء . قال ابن عباس : كانت الحال حال اضطرار وافتقار إلى المطعم وقد لزمتهما الحاجة إلى آخر كسب المرء وهو المسألة فلم يجدا مواسيا ، فلما أقام الجدار لم يتمالك الزمخشري موسى لما رأى من الحرمان ومساس الحاجة أن " قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا " وطلبت على عملك جعلا حتى تنتعش به وتستدفع الضرورة انتهى . قال ابن عطية : وقوله " لو شئت لاتخذت عليه أجرا " وإن لم يكن سؤالا ففي ضمنه الإنكار لفعله ، والقول بتصويب أخذ الأجر ، وفي ذلك تخطئة ترك الأجر انتهى . وقرأ عبد الله والحسن وقتادة وابن بحرية ( لتخذت ) بتاء مفتوحة وخاء مكسورة ، يقال تخذ واتخذ نحو تبع واتبع ، افتعل من تخذ وأدغم التاء في التاء . قال الشاعر :
وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها نسيفا كأفحوص القطاة المطرق
والتاء أصل عند البصريين وليس من الأخذ ، وزعم بعضهم أن الاتخاذ افتعال من الأخذ وأنهم ظنوا التاء أصلية فقالوا في الثلاثي تخذ ، كما قالوا تقي من اتقى . والظاهر أن هذا إشارة إلى قوله " لو شئت " ، أي : هذا الإعراض سبب الفراق " بيني وبينك " على حسب ما سبق من ميعاده . أنه قال " إن سألتك " وهذه الجملة وإن لم تكن سؤالا فإنها تتضمنه ، إذ المعنى : ألم تكن تتخذ عليه أجرا لاحتياجنا إليه .
وقال : قد تصور فراق بينهما عند حلول ميعاده على ما قال الزمخشري موسى - عليه السلام - " إن سألتك عن شيء بعده فلا تصاحبني " فأشار إليه وجعله مبتدأ وأخبر عنه كما تقول : هذا أخوك فلا يكون هذا إشارة إلى غير الأخ انتهى . وفيما قاله نظر .
وقرأ " ابن أبي عبلة فراق بيني " بالتنوين والجمهور على الإضافة . والبين قال ابن عطية : الصلاح الذي يكون بين المصطحبين ونحوهما ، وذلك مستعار فيه من الظرفية ومستعمل استعمال الأسماء ، وتكريره " بيني وبينك " وعدوله عن بيننا لمعنى التأكيد . " سأنبئك " ، أي : سأخبرك " بتأويل " ما رأيت من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار ، أي : بما آل إليه الأمر فيما كان ظاهره أن لا يكون . وقرأ ( سأنبيك ) بإخلاص الياء من غير [ ص: 153 ] همز . وعن ابن وثاب : كان قول ابن عباس موسى في السفينة وفي الغلام لله ، وكان قوله في الجدار لنفسه لطلب شيء من الدنيا فكان سبب الفراق . وقال أرباب المعاني : هذه الأمثلة التي وقعت لموسى مع الخضر حجة على موسى وإعجاله ، وذلك أنه لما أنكر خرق السفينة نودي : يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحا في اليم ؟ فلما أنكر قتل الغلام قيل له : أين إنكارك هذا من وكز القبطي وقضائك عليه ؟ فلما أنكر إقامة الجدار نودي أين هذا من رفعك الحجر لبنات شعيب دون أجرة ؟ " سأنبئك " في معاني هذا معك ولا أفارقك حتى أوضح لك ما استبهم عليك .