[ ص: 315 ] لما ذكر تعالى أنه بلا كفار قريش وشبه بلاءهم ببلاء أصحاب الجنة ، أخبر بحال أضدادهم وهم المتقون ، فقال : إن للمتقين أي : الكفر جنات النعيم . أضافها إلى النعيم ; لأن النعيم لا يفارقها ، إذ ليس فيها إلا هو ، فلا يشوبه كدر كما يشوب جنات الدنيا . وروي أنه لما نزلت هذه الآية قالت قريش : إن كان ثم جنة فلنا فيها أكثر الحظ ، فنزلت : أفنجعل المسلمين كالمجرمين . وقال مقاتل : قالوا فضلنا الله عليكم في الدنيا ، فهو يفضلنا عليكم في الآخرة ، وإلا فالمشاركة ، فأجاب - تعالى - : ( أفنجعل ) أي : لا يتساوى المطيع والعاصي ، هو استفهام فيه توقيف على خطأ ما قالوا وتوبيخ . ثم التفت إليهم ، فقال : ما لكم أي : أي شيء لكم فيما تزعمون ؟ وهو استفهام إنكار عليهم . ثم قال : كيف تحكمون وهو استفهام ثالث على سبيل الإنكار عليهم ، استفهم عن هيئة حكمهم . ففي قوله : ما لكم استفهام عن كينونة مبهمة ، وفي كيف تحكمون استفهام عن هيئة حكمهم .
ثم أضرب عن هذا إضراب انتقال لشيء آخر لا إبطال لما قبله ، فقال : أم لكم أي : بل ألكم ؟ ( كتاب ) أي : من عند الله ( تدرسون ) أن ما تختارونه يكون لكم . وقرأ الجمهور : إن لكم بكسر الهمزة ، فقيل هو استئناف قول على معنى : إن لكم كتاب فلكم فيه متخير . وقيل : إن معمولة لتدرسون ، أي : تدرسون في الكتاب أن لكم لما تخيرون أي : تختارون من النعيم ، وكسرت الهمزة من أن لدخول اللام في الخبر ، وهي بمعنى أن بفتح الهمزة ، قاله وبدأ به وقال : ويجوز أن تكون حكاية للمدروس كما هو ، كقوله : الزمخشري وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح . انتهى . وقرأ طلحة والضحاك : " أن لكم " بفتح الهمزة ، واللام في لما زائدة ، كهي في قراءة من قرأ " إلا أنهم ليأكلون الطعام " بفتح همزة أنهم . وقرأ : أإن لكم على الاستفهام . أم لكم أيمان أي : أقسام علينا ( بالغة ) أي : متناهية في التوكيد . يقال : لفلان علي يمين إذا حلفت له على الوفاء بما حلفت عليه ، و إلى يوم القيامة متعلق بما تعلق به الخبر وهو لكم ، أي : ثابتة لكم إلى يوم القيامة ، أو ببالغة أي : تبلغ إلى ذلك اليوم وتنتهي إليه . وقرأ الجمهور : ( بالغة ) بالرفع على الصفة ، الأعرج والحسن : بالنصب على الحال من الضمير المستكن في علينا . وقال وزيد بن علي ابن عطية : حال من نكرة ; لأنها مخصصة تغليبا . إن لكم لما تحكمون : جواب القسم ; لأن معنى أم لكم أيمان علينا : أم أقسمنا لكم ، قاله . وقرأ الزمخشري : أإن لكم علي ، كالتي قبلها على الاستفهام . سلهم أيهم بذلك زعيم أي : ضامن بما يقولونه ويدعون صحته ، وسل معلقة عن مطلوبها الثاني ، لما كان السؤال سببا لحصول العلم جاز تعليقه كالعلم ، ومطلوبها الثاني أصله أن يعدى بعن أو بالباء ، كما قال تعالى : الأعرج يسألونك عن الشهر الحرام وقال الشاعر :
فإن تسألوني بالنساء فإنني عليم بأدواء النساء طبيب
ولو كان غير اسم استفهام لتعدى إليه بعن أو بالباء ، كما تقول : سل زيدا عن من ينظر في كذا ، ولكنه علق سلهم ، فالجملة في موضع نصب . وقرأ الجمهور : أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم . وعبد الله : فليأتوا بشركهم ، قيل : والمراد في القراءتين الأصنام ، أو ناس يشاركونهم في قولهم ويوافقونهم فيه ، أي : لا أحد يقول بقولهم ، كما أنه لا كتاب لهم ، ولا عهد من الله ، ولا زعيم بذلك فليأتوا بشركائهم هذا استدعاء وتوقيف . قيل : في الدنيا أي : ليحضروهم حتى ترى ، هل هم بحال من يضر وينفع أم لا . وقيل : في الآخرة ، على أن يأتوا بهم . وابن أبي عبلة
وعلى هذا القول الناصب ليوم " فليأتوا " . وقيل : اذكر ، وقيل التقدير : يوم يكشف عن ساق كان كيت وكيت ، وحذف للتهويل العظيم بما يكون فيه من الحوادث . والظاهر ، وقول الجمهور : إن هذا اليوم هو يوم القيامة . وقال [ ص: 316 ] يوم يكشف عن ساق أبو مسلم : هذا اليوم هو في الدنيا ; لأنه قال : ويدعون إلى السجود ويوم القيامة ليس فيه تعبد ولا تكليف ، بل المراد منه إما آخر أيام الرجل في دنياه ; لقوله : يوم يرون الملائكة لا بشرى ثم يرى الناس يدعون إلى الصلاة إذا حضرت أوقاتها ، فلا يستطيع الصلاة ; لأنه الوقت الذي لا ينفع فيه نفسا إيمانها . وإما حال المرض والهرم والمعجزة . وقد كانوا قبل ذلك اليوم يدعون إلى السجود وهم سالمون مما بهم الآن . فذلك إما لشدة النازلة بهم من هول ما عاينوا عند الموت ، وإما من العجز والهرم . وأجيب بأن الدعاء إلى السجود ليس على سبيل التكليف ، بل على سبيل التقريع والتخجيل . وعندما يدعون إلى السجود ، سلبوا القدرة عليه ، وحيل بينهم وبين الاستطاعة حتى يزداد حزنهم وندامتهم على ما فرطوا فيه حين دعوا إليه وهم سالمو الأطراف والمفاصل . وقرأ الجمهور : ( يكشف ) بالياء مبنيا للمفعول . وقرأ عبد الله بن أبي عبلة : بفتح الياء مبنيا للفاعل . وابن عباس أيضا وابن مسعود وابن هرمز : بالنون . : يكشف بفتح الياء مبنيا للفاعل . وعنه أيضا بالياء مضمومة مبنيا للمفعول . وقرئ : يكشف بالياء المضمومة وكسر الشين ، من أكشف إذا دخل في الكشف ، ومنه أكشف الرجل : انقلبت شفته العليا ، وكشف الساق كناية عن شدة الأمر وتفاقمه . قال وابن عباس مجاهد : هي أول ساعة من يوم القيامة ، وهي أفظعها . ومما جاء في الحديث من قوله : " فيكشف لهم عن ساق " ، محمول أيضا على الشدة في ذلك اليوم ، وهو مجاز شائع في لسان العرب . قال حاتم :
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
( وقال الراجز ) :
عجبت من نفسي ومن إشفاقها ومن طرادي الخيل عن أرزاقها
في سنة قد كشفت عن ساقها حمراء تبري اللحم عن عراقها
( وقال الراجز ) :
قد شمرت عن ساقها فشدوا وجدت الحرب بكم فجدوا
( وقال آخر ) :
صبرا أمام إن شر باق وقامت الحرب بنا على ساق
وقال الشاعر :
كشفت لهم عن ساقها وبدا من الشر البوارح
ويروى : الصداح . وقال : يوم يكشف عن شدة . وقال ابن عباس أبو عبيدة : هذه كلمة تستعمل في الشدة ، يقال : كشف عن ساقه إذا تشمر . قال : ومن هذا تقول العرب لسنة الجدب : كشفت ساقها . ونكر ( ساق ) للدلالة على أنه أمر مبهم في الشدة ، خارج عن المألوف ، كقوله تعالى : يوم يدع الداع إلى شيء نكر فكأنه قيل : يوم يقع أمر فظيع هائل . ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ظاهره أنهم يدعون ، وتقدم أن ذلك على سبيل التوبيخ لا على سبيل التكليف . وقيل : الداعي ما يرونه من سجود المؤمنين ، فيريدون هم السجود فلا يستطيعونه ، كما ورد في الحديث الذي حاورهم فيه الله - تعالى - أنهم يقولون : أنت ربنا ، ويخرون للسجود ، فيسجد كل مؤمن ، وتصير أصلاب المنافقين والكفار كصياصي البقر عظما واحدا ، فلا يستطيعون سجودا . انتهى . ونفي الاستطاعة للسجود في الآخرة لا يدل على أن لهم استطاعة في الدنيا ، كما ذهب إليه الجبائي . و ( خاشعة ) : حال ، وذو الحال الضمير في ( يدعون ) وخص الأبصار بالخشوع ، وإن كانت الجوارح كلها خاشعة ; لأنه أبين فيه منه في كل جارحة . ( ترهقهم ) : تغشاهم [ ص: 317 ] ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود . قيل : هو عبارة عن جميع الطاعات ، وخص بالذكر من حيث هو أعظم الطاعات ، ومن حيث امتحنوا به في الآخرة . وقال النخعي : أراد بالسجود : الصلوات المكتوبة . وقال والشعبي ابن جبير : كانوا يسمعون النداء للصلاة وحي على الفلاح فلا يجيبون .
فذرني ومن يكذب بهذا الحديث المعنى : خل بيني وبينه ، فإني سأجازيه وليس ثم مانع . وهذا وعيد شديد لمن يكذب بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أمر الآخرة وغيره ، وكان تعالى قدم أشياء من أحوال السعداء والأشقياء . " ومن " في موضع نصب ، إما عطفا على الضمير في " ذرني " ، وإما على أنه مفعول معه . ( سنستدرجهم ) إلى قوله : ( متين ) : تكلم عليه في الأعراف . أم تسألهم أجرا إلى : ( يكتبون ) : تكلم عليه في الطور . روي أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يدعو على الذين انهزموا بأحد حين اشتد بالمسلمين الأمر . وقيل : حين أراد أن يدعو على ثقيف ، فنزلت : فاصبر لحكم ربك : وهو إمهالهم وتأخير نصرك عليهم ، وامض لما أمرت به من التبليغ واحتمال الأذى ولا تكن كصاحب الحوت : هو يونس - عليه السلام - إذ نادى أي : في بطن الحوت ، وهو قوله : أن لا إله إلا أنت سبحانك وليس النهي منصبا على الذوات ، إنما المعنى : لا يكن حالك مثل حاله . إذ نادى فالعامل في " إذ " هو المحذوف المضاف ، أي : كحال أو كقصة صاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم : مملوء غيظا على قومه ، إذ لم يؤمنوا لما دعاهم إلى الإيمان ، وأحوجوه إلى استعجال مفارقته إياهم . وقال : ذو الرمة
وأنت من حب مي مضمر حزنا عاني الفؤاد قريح القلب مكظوم
وتقدمت مادة كظم في قوله : والكاظمين الغيظ . وقرأ الجمهور : ( تداركه ) ماضيا ، ولم تلحقه علامة التأنيث لتحسين الفصل . وقرأ عبد الله : تداركته بتاء التأنيث . وابن عباس وابن هرمز والحسن : بشد الدال . قال والأعمش أبو حاتم : ولا يجوز ذلك ، والأصل في ذلك تتداركه ; لأنه مستقبل انتصب بـ ( أن ) الخفيفة قبله . وقال بعض المتأخرين : هذا لا يجوز على حكاية الحال الماضية المقتضية ، أي : لولا أن كان يقال تتداركه ، ومعناه : لولا هذه الحال الموجودة كانت له من نعم الله لنبذ بالعراء ونحوه قوله : فوجد فيها رجلين يقتتلان . وجواب ( لولا ) قوله : لنبذ بالعراء وهو مذموم أي : لكنه نبذه وهو غير مذموم ، كما قال : فنبذناه بالعراء . والمعتمد فيه على الحال لا على النبذ مطلقا ، بل بقيد الحال . وقيل : لنبذ بعراء القيامة مذموما ، ويدل عليه فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون . ثم أخبر تعالى أنه ( اجتباه ) أي : اصطفاه وجعله من الصالحين أي : الأنبياء . وعن : رد الله إليه الوحي وشفعه في قومه . ابن عباس
ولما أمره تعالى بالصبر لما أراده تعالى ونهاه عن ما نهاه ، أخبره بشدة عداوتهم ليتلقى ذلك بالصبر ; فقال : أي : ليزلقون قومك بنظرهم الحاد الدال على العداوة المفرطة ، أو ليهلكونك ، من قولهم : نظر إلي نظرا يكاد يصرعني ويكاد يأكلني ، أي : لو أمكنه بنظره الصرع والأكل لفعله . وقال الشاعر : وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك
يتعارضون إذا التقوا في موطن نظرا يزل مواطن الأقدام
وقال الكلبي : ليزلقونك ، ليصرفونك . وقرأ الجمهور : ( ليزلقونك ) بضم الياء من أزلق . و نافع : بفتحها من زلقت الرجل ، عدي بالفتحة من زلق الرجل بالكسر ، نحو شترت عينه بالكسر ، وشترها الله بالفتح . وقرأ عبد الله وابن عباس والأعمش وعيسى : ليزهقونك . وقيل : معنى ليزلقونك بأبصارهم : ليأخذونك بالعين ، وذكر أن اللفع بالعين كان في بني أسد . قال : كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل ، ثم يرفع جانب خبائه ، فيقول : لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن [ ص: 318 ] من هذه ، فما تذهب إلا قليلا ثم تسقط طائفة ، أو عدة منها . قال الكفار لهذا الرجل أن يصيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، فأجابهم ، وأنشد : ابن الكلبي
قد كان قومك يحسبونك سيدا وأخال أنك سيد معيون
أي : مصاب بالعين ، فعصم الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأنزل عليه هذه الآية . قال قتادة : نزلت لدفع العين حين أرادوا أن يعينوه - عليه الصلاة والسلام - . وقال الحسن : أن يقرأ هذه الآية . وقال دواء من أصابته العين القشيري : الإصابة بالعين إنما تكون مع الاستحسان ، لا مع الكراهة والبغض ، وقال : ويقولون إنه لمجنون . وقال القرطبي : ولا يمنع كراهة الشيء من أن يصاب بالعين عداوة له حتى يهلك . انتهى . وقد يكون في المعين ، وإن كان مبغضا عند العائن صفة يستحسنها العائن ، فيعينه من تلك الصفة ، لا سيما من تكون فيه صفات كمال . لما سمعوا الذكر : من يقول " لما " ظرف يكون العامل فيه " ليزلقونك " ، وإن كان حرف وجوب لوجوب ، وهو الصحيح ، كان الجواب محذوفا لدلالة ما قبله عليه ، أي : لما سمعوا الذكر كادوا يزلقونك ، والذكر : القرآن . ويقولون إنه لمجنون تنفيرا عنه ، وقد علموا أنه - صلى الله عليه وسلم - أتمهم فضلا وأرجحهم عقلا . " وما هو " أي : القرآن ، " إلا ذكر " : عظة وعبرة ، " للعالمين " أي : للجن والإنس ، فكيف ينسبون إلى الجن من جاء به ؟ .