الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                                        نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية

                                                                                                        الزيلعي - جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي

                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                        ( ويستوعب رأسه بالمسح ) وهو سنة ، وقال الشافعي رحمه الله تعالى: السنة التثليث بمياه مختلفة اعتبارا بالمغسول . [ ص: 83 - 85 ] ولنا { أن أنسا رضي الله عنه توضأ ثلاثا ثلاثا ، ومسح برأسه مرة واحدة ، وقال : هذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم }. [ ص: 86 - 87 ] والذي يروى من التثليث محمول عليه بماء واحد ، وهو مشروع على ما روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى; ولأن المفروض هو المسح ، وبالتكرار يصير غسلا ، ولا يكون مسنونا ، فصار كمسح الخف ، بخلاف الغسل ; لأنه لا يضره التكرار .

                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                        قوله في الكتاب : " ويستوعب رأسه بالمسح هو السنة " يشير إلى حديث رواه البخاري ، ومسلم في " صحيحيهما " من طريق مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه ، قال : شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث ، وفيه : { ثم أدخل يده يعني في التور فمسح رأسه ، فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة } ، وقد تقدم المسح على الناصية عند مسلم فظهر أن الاستيعاب سنة ، قال في الإمام : قال ابن منده : روى هذا الحديث عن عمرو بن يحيى جماعة لم يذكر فيه مسح جميع الرأس إلا مالك بن أنس ، قال : وقد رواه الطحاوي من طريق ابن وهب عن يحيى بن عبد الله بن سالم ، ومالك عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن عبد الله بن زيد بن عاصم المازني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه : { وأنه أخذ بيديه ماء فبدأ بمقدم رأسه ، ثم ذهب بيديه إلى مؤخر الرأس ، ثم ردهما إلى مقدمه }.

                                                                                                        قال : فقد تابع مالكا على هذه الرواية يحيى بن عبد الله ، وقد أخرج له مسلم انتهى .

                                                                                                        الحديث الثاني عشر : روي { عن أنس رضي الله عنه أنه توضأ ثلاثا ثلاثا ، ومسح برأسه مرة واحدة ، وقال : هذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم }قلت : غريب من حديث أنس ، [ ص: 86 ]

                                                                                                        والحديث في " الصحيحين " من رواية عبد الله بن زيد { أنه مسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة }. وعزا شيخنا " علاء الدين " مقلدا لغيره إلى كتاب الإمام للشيخ تقي الدين بن دقيق العيد أنه قال : رواه الطبراني في " معجمه الوسط " من حديث أنس برواية { راشد أبي محمد الحماني ، قال : رأيت أنس بن مالك بالزاوية ، فقلت أخبرني عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان فإنه بلغني أنك كنت توضئه ، قال : فدعا بوضوء فأتي بطست وقدح ، فوضع بين يديه ، فأكفأ على يده من الماء وأنعم غسل كفيه ، ثم مضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا وغسل وجهه ثلاثا ، ثم أخرج يده اليمنى فغسلها ثلاثا ، ثم غسل يده اليسرى ثلاثا ، ثم مسح برأسه مرة واحدة ، غير أنه أمرهما على أذنيه فمسح عليهما }انتهى .

                                                                                                        وهذا لم أجده لا في " الإمام ولا في معجم الطبراني الوسط " ويضعفه ما رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا إسحاق الأزرق عن أبي العلاء عن قتادة عن { أنس كان يمسح على الرأس ثلاثا يأخذ لكل مسحة ماء جديدا }.

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن عبد خير { عن علي بن أبي طالب أنه أتي بإناء فيه ماء وطست ، فأفرغ من الإناء على يمينه فغسل يديه ثلاثا ، ثم تمضمض واستنثر ثلاثا ، ثم غسل وجهه ثلاثا ، وغسل يده اليمنى ثلاثا ، وغسل يده الشمال ثلاثا ، ثم جعل يده في الإناء فمسح برأسه مرة واحدة ، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا ، ورجله الشمال ثلاثا ، ثم قال : من سره أن يعلم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو هذا }" انتهى .

                                                                                                        ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا حفص بن غياث عن أشعث عن أبي إسحاق عن جدته عن علي { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ ثلاثا ثلاثا إلا المسح فإنه مرة مرة } ، انتهى .

                                                                                                        وهذا أصرح في المقصود لأصحابنا ، فإنه بلفظ " كان " المقتضية للدوام ، إلا أن فيه ضعيفا . [ ص: 87 ]

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه أبو داود عن عباد بن منصور عن عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير عن { ابن عباس أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فذكر الحديث كله ثلاثا ثلاثا ، قال : ومسح برأسه وأذنيه مرة واحدة } ، انتهى . وعباد بن منصور فيه مقال .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه الدارقطني في سننه عن زيد بن الحباب عن عمر بن عبد الرحمن بن سعد المخزومي حدثني جدي { أن عثمان بن عفان خرج في نفر من أصحابه حتى جلس على المقاعد فدعا بوضوء ، فغسل يديه ثلاثا وتمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا وغسل وجهه ثلاثا وذراعيه ثلاثا ، ومسح برأسه مرة واحدة ، وغسل رجليه ثلاثا ثلاثا ، ثم قال : هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ ، وكنت على وضوء ، ولكن أحببت أن أريكم كيف توضأ النبي صلى الله عليه وسلم }انتهى .

                                                                                                        الحديث الثالث عشر : قال المصنف : والذي يروى فيه " يعني مسح الرأس من التثليث " محمول عليه بماء واحد ، قلت : في تثليث المسح أحاديث : بعضها صريحة ، وبعضها بالمفهوم ، أما الصريحة فمنها حديث عامر بن شقيق بن جمرة " بالجيم والراء " عن { شقيق بن سلمة ، قال : رأيت عثمان بن عفان غسل ذراعيه ثلاثا ثلاثا ومسح رأسه ثلاثا ، ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا } ، انتهى .

                                                                                                        قال أبو داود : ورواه وكيع عن إسرائيل ، فقال : توضأ ثلاثا فقط ، قال : وأحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة واحدة ، فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثا ثلاثا ، وقالوا : ومسح رأسه لم يذكروا فيه عددا انتهى . وعامر بن شقيق تقدم الكلام عليه في " تخليل اللحية " ورواه الدارقطني في " سننه " من حديث صالح بن عبد الجبار حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني عن أبيه عن عثمان بن عفان أنه توضأ بالمقاعد ، فذكر فيه التثليث في المسح وبقية الأعضاء .

                                                                                                        قال ابن القطان في " كتابه " : صالح بن عبد الجبار لا أعرفه إلا في [ ص: 88 ] هذا الحديث ، وهو مجهول الحال ، ومحمد بن عبد الرحمن بن البيلماني قال الترمذي : قال البخاري : منكر الحديث انتهى .

                                                                                                        ورواه البزار في مسنده حدثنا محمد بن المثنى ثنا أبو عامر ثنا عبد الرحمن بن وردان حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن حمران عن عثمان به قال البزار : ولا نعلم روى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن حمران إلا هذا الحديث انتهى .

                                                                                                        ورواه أبو داود في " سننه " عن عبد الرحمن بن وردان به .

                                                                                                        وعبد الرحمن بن وردان أبو بكر الغفاري قال فيه ابن معين صالح . وقال ابن أبي حاتم : سألت أبي عنه ، فقال : لا بأس به .

                                                                                                        طريق رابع أخرجه البيهقي في " الخلافيات " وأشار إليه في السنن عن الليث بن سعد عن خالد عن سعيد بن أبي هلال عن عطاء بن أبي رباح : أن عثمان بن عفان أتي بوضوء ، فذكر الحديث ، قال : ثم مسح برأسه ثلاثا حتى قفاه وأذنيه . قال الشيخ تقي الدين في الإمام : وهو منقطع فيما بين عطاء بن أبي رباح وعثمان انتهى .

                                                                                                        وأما حديث علي ، فله أيضا طرق :

                                                                                                        أحدها : عند الدارقطني عن أبي يوسف القاضي عن أبي حنيفة رضي الله عنه عن خالد بن علقمة عن عبد خير { عن علي بن أبي طالب أنه توضأ فغسل يديه ثلاثا ، وفيه : ومسح رأسه ثلاثا وغسل رجليه ثلاثا ، ثم قال : من أحب أن ينظر إلى وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم كاملا فلينظر إلى هذا ، وفي رواية : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ }.

                                                                                                        قال الدارقطني : كذا رواه أبو حنيفة عن خالد بن علقمة عن عبد خير عن علي ، وقال فيه : ومسح رأسه ثلاثا ، وخالفه جماعة من الحفاظ الثقات ، كزائدة بن قدامة ، وسفيان الثوري ، وشعبة ، وأبي عوانة ، وشريك ، وأبي الأشهب جعفر بن الحارث ، وهارون بن سعد ، وجعفر بن محمد . وحجاج بن أرطاة . وأبان بن تغلب ، وعلي بن صالح ، وحازم بن إبراهيم ، وحسن بن صالح ، وجعفر بن الأحمر فرووه عن خالد بن علقمة ، وكلهم قالوا : ومسح رأسه مرة ، ولا نعلم أحدا قال فيه : ومسح رأسه ثلاثا غير أبي حنيفة انتهى .

                                                                                                        طريق آخر : أخرجه البزار في " مسنده " من طريق أبي داود الطيالسي ثنا أبو الأحوص سلام بن سليم عن أبي إسحاق { عن أبي حية بن قيس أنه رأى عليا في الرحبة [ ص: 89 ] توضأ فغسل كفيه ، ثم مضمض ثلاثا واستنثر ثلاثا وغسل وجهه ثلاثا وذراعيه ثلاثا ومسح رأسه ثلاثا وغسل رجليه إلى الكعبين ثلاثا ثلاثا ، ثم قال : إني أحببت أن أريكم كيف كان طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم }انتهى .

                                                                                                        وذكره ابن القطان في كتابه من جهة البزار ، ولم يحكم عليه بصحة ولا ضعف . طريق آخر : روى الطبراني في " كتابه مسند الشاميين " حدثنا الحسن بن علي بن خلف الدمشقي ثنا سليمان بن عبد الرحمن ثنا إسماعيل بن عياش عن عبد العزيز بن عبيد الله عن عثمان بن سعيد النخعي عن { علي أنه قال : ألا أريكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلنا : بلى ، فأتى بطست من ماء فغسل كفيه ووجهه ثلاثا ويديه إلى المرفقين ثلاثا ثلاثا ومسح رأسه ثلاثا بماء واحد ومضمض واستنشق ثلاثا بماء واحد وغسل رجليه ثلاثا }انتهى .

                                                                                                        وأما حديث عبد الله بن زيد ، فرواه النسائي في " سننه " من حديث سفيان بن عيينة عن عمرو بن يحيى عن أبيه { عن عبد الله بن زيد الذي أري النداء قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ وغسل وجهه ثلاثا ويديه مرتين ومسح برأسه مرتين } ، وأخرجه البيهقي في " سننه " ثم قال : خالفه مالك ، ووهيب ، وسليمان بن بلال ، وخالد الواسطي وغيرهم ، فرووه عن عمرو بن يحيى ، { فمسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة }.

                                                                                                        وقال ابن عبد البر : لم يذكر فيه أحد مرتين غير ابن عيينة ووهم فيه ، وأظنه والله أعلم تأول قوله : { فأقبل بهما وأدبر ، فجعلهما مرتين } ، وما ذكر عن ابن عيينة ، فمن رواية مسدد ومحمد بن منصور . وأبي بكر بن أبي شيبة كلهم ذكروا عنه هذا .

                                                                                                        وأما الحميدي فإنه ميز ذلك فلم يذكره ، أو حفظ عنه أنه رجع عنه ، فذكر فيه عن ابن عيينة : ومسح رأسه وغسل رجليه ، فلم يصف المسح ، ولا قال : مرتين . أحاديث التثليث الواردة بالمفهوم لا بالمنطوق

                                                                                                        منها : حديث عبد الله بن زيدان أن النبي صلى الله عليه وسلم { توضأ مرتين مرتين } ، رواه البخاري .

                                                                                                        وروى مسلم من حديث أبي أنس { أن عثمان بن عفان توضأ بالمقاعد ، وقال : ألا أريكم كيف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ثم توضأ ثلاثا ثلاثا } ، قال البيهقي : وعلى هذا اعتمد [ ص: 90 ] الشافعي في تكرار المسح ، وهذه رواية مطلقة .

                                                                                                        والروايات الثابتة المفسرة عن عثمان تدل على أن التكرار وقع فيما عدا الرأس من الأعضاء ، [ وأنه ] مسح برأسه مرة واحدة ، قال : وقد روي من أوجه غريبة عن عثمان ذكر التكرار في مسح الرأس ، إلا أنها مع خلاف الحفاظ الثقات ليس بحجة عند أهل المعرفة ، وإن كان بعض أصحابنا يحتج به انتهى كلامه .

                                                                                                        وروى الترمذي من حديث سفيان عن أبي إسحاق عن أبي حية عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم { توضأ ثلاثا ثلاثا } ، انتهى .

                                                                                                        وصححه قال أصحابنا : ليس في هذه الأحاديث حجة على التثليث ; لأن قوله : " توضأ " يعود إلى ما يحصل به الوضاءة ، وهي الغسل ، بدليل أن الترمذي روى حديث علي هذا من طريق أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن أبي حية { عن علي أنه توضأ فغسل كفيه ، ثم تمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا وغسل وجهه ثلاثا وذراعيه ثلاثا ومسح رأسه مرة ، ثم غسل قدميه ، ثم قال : أحببت أن أريكم كيف كان طهور النبي صلى الله عليه وسلم }وما أبهمه الراوي الأول فسره الراوي الثاني ، فدل على أن التثليث في الوضوء إنما يرجع للمغسول دون الممسوح ، ويؤيد هذا أيضا حديث عثمان في " الصحيحين " { أنه توضأ فغسل وجهه ثلاثا ويديه ثلاثا ، ثم قال : ومسح رأسه فلم يذكر عددا ، ثم قال : وغسل رجليه ثلاثا } ، وأجاب الخصم : بأن الوضوء إذا أطلق عم الغسل والمسح .




                                                                                                        الخدمات العلمية