فرع
وجهان ، قال إذا وجد مفتيين فأكثر هل يلزمه أن يجتهد فيسأل أعلمهم ؟ ابن سريج : نعم ، واختاره ابن كج والقفال ؛ لأنه يسهل عليه ، وأصحهما عند الجمهور أنه يتخير ، فيسأل من شاء ؛ لأن الأولين كانوا يسألون علماء الصحابة - رضي الله عنهم - مع تفاوتهم في العلم والفضل ، ويعملون بقول من سألوه من غير إنكار ، قال : فإن اعتقد أن أحدهم أعلم ، لم يجز أن يقلد غيره ، وإن كان لا يلزمه البحث عن الأعلم إذا لم يعتقد اختصاص أحدهم بزيادة علم . الغزالي
قلت : هذا الذي قاله قد قاله غيره أيضا وهو وإن كان ظاهرا ، ففيه نظر لما ذكرنا من سؤال آحاد الصحابة - رضي الله عنهم - مع وجود أفاضلهم الذين فضلهم متواتر ، وقد يمنع هذا . وعلى الجملة : المختار ما ذكره الغزالي . فعلى هذا يلزمه تقليد أورع العالمين ، وأعلم الورعين ، فإن تعارضا قدم الأعلم على الأصح . والله أعلم . الغزالي
فرع
وإذا ، فإن عرف استناد الجواب إلى نص أو إجماع ، فلا حاجة إلى السؤال ثانيا ، وكذا لو كان المقلد ميتا وجوزناه ، وإن عرف استناده إلى الرأي والقياس [ ص: 105 ] أو شك والمقلد حي ، فوجهان ، أحدهما : لا يحتاج إلى السؤال ثانيا ؛ لأن الظاهر استمراره على جوابه ، وأصحهما : يلزمه السؤال ثانيا . استفتى وأجيب ، فحدثت له تلك الحادثة ثانيا
فرع
، فإن أوجبنا البحث وتقليد الأعلم اعتمده ، وإلا فأوجه ، أصحها : يتخير ، ويأخذ بقول أيهما شاء ، والثاني : يأخذ بأغلظ الجوابين ، والثالث : بأخفهما ، والرابع : بقول من يبني قوله على الأثر دون الرأي ، والخامس : بقول من سأله أولا . لو اختلف عليه جواب مفتيين
قلت : وحكي وجه سادس أنه يسأل ثالثا ، فيأخذ بفتوى من وافقه . وهذا الذي صححه من التخيير هو الذي صححه الجمهور ، ونقله المحاملي في أول " المجموع " عن أكثر أصحابنا لأن فرضه أن يقلد عالما وقد حصل . والله أعلم .
ونقل الروياني وجهين في أن وثالثا لتسكن نفسه ، أم له الاقتصار على جواب الأول والقياس في وجه الثاني . من سأل مفتيا ولم تسكن نفسه إلى فتواه هل يلزمه أن يسأل ثانيا
الجملة الثالثة فيما يتعلق بهما ، فيجوز للمستفتي أن يسأل بنفسه ، ويجوز أن يكتفي برسول ثقة يبعثه ، وبالرقعة ، ويكفي ترجمان واحد إذا لم يعرف لغته .
قلت : له اعتماد خط المفتي إذا أخبره من يقبل خبره أنه خطه ، أو كان يعرف خطه ولم يشك فيه . والله أعلم .
[ ص: 106 ] ومن أن لا يسأل المفتي وهو قائم أو مشغول بما يمنعه من تمام الفكر ، وأن لا يقول إذا أجابه : هكذا قلت أنا ، وأن لا يطالب بالدليل ، فإن أراد معرفته ، سأل عنه في وقت آخر . وإذا سأل في رقعة ، فليكن كاتبها حاذقا ، ليبين مواضع السؤال ، وينقط مواضع الاشتباه ، وليتأمل المفتي الرقعة كلمة كلمة ، وليكن اعتناؤه بآخر الكلام أشد ؛ لأنه موضع السؤال ، وليتثبت في الجواب وإن كانت المسألة واضحة ، وأن يشاور من في مجلسه ممن يصلح لذلك إلا أن يكون فيها ما لا يحسن إظهاره . آداب المستفتي
وله أن ينقط من الرقعة مواضع الإشكال ، وأن يصلح ما فيها من خطأ ولحن فاحش ، وإذا رأى في آخر بعض السطور بياضا ، شغله بخطه ، لئلا يلحق فيه بعد جوابه شيء ، وليبين المفتي بخطه ، وليكن قلمه بين قلمين . ولو كتب مع الجواب حجة من آية أو حديث فلا بأس ، ولا يعتاد ذكر القياس ، وطرق الاجتهاد .
فإن تعلقت الفتوى بقاض ، فحسن أن يومئ إلى الطريق للاجتهاد ، وإذا رأى في الفتوى جواب من لا يصلح للفتوى ، لم يفت معه . قال الصيمري : وله أن يضرب عليه بإذن صاحب الرقعة وبغير إذنه ، ولا يحبسها إلا بإذنه ، واستحبوا أن يكون السؤال بخط غير المفتي .
فرع
متى ، دار المقلد معه ، وعمل في المستقبل بقوله الثاني ، ولا ينقض ما مضى ، ولو نكح المجتهد امرأة ، ثم خالعها ثلاثا ؛ لأنه رأى الخلع فسخا ، ثم تغير اجتهاده قال تغير اجتهاد المجتهد : يلزمه مفارقتها ، وأبدى ترددا فيما لو فعل المقلد مثل ذلك ، ثم تغير اجتهاد مقلده ، قال : والصحيح أن الجواب كذلك ، كما لو تغير اجتهاد المقلد في الصلاة ، فإنه يتحول . ولو قال مجتهد للمقلد والصورة هذه : [ ص: 107 ] أخطأ بك من قلدته ، فإن كان الذي قلده أعلم من الثاني ، أو استويا ، فلا أثر لقوله ، وإن كان الثاني أعلم ، فالقياس أنا إن أوجبنا تقليد الأعلم ، فهو كما لو تغير اجتهاد مقلده ، وإلا فلا أثر له . الغزالي
قلت : هذا الذي زعم الإمام الرافعي - رحمه الله - أنه القياس ليس بشيء ، بل الوجه الجزم بأنه لا يلزمه شيء ، ولا أثر لقول الثاني ، وهذا كله إذا كانت المسألة اجتهادية ، وقد لخص الصيمري ، وغيرهما من أصحابنا هذه المسألة بتفصيل حسن ، فقالوا : إذا أفتى ، ثم رجع ، فإن علم المستفتي رجوعه ولم يكن عمل بالأول لم يجز له العمل به ، وكذا إذا نكح بفتواه ، أو استمر على نكاح بفتواه ، ثم رجع ، لزمه فراقها ، كنظيره في القبلة . والخطيب البغدادي
وإن كان عمل به قبل الرجوع ، فإن كان مخالفا لدليل قاطع ، لزم المستفتي نقض عمله ، وإن كان في محل الاجتهاد فلا ؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد ، ولا يعمل خلاف هذا لأصحابنا ، وما ذكره صاحبا المستصفى و " المحصول " ، فليس فيه تصريح بمخالفة هذا . قال - رحمه الله - : وإن كان الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح ، وجب نقضه ، وإن كان اجتهاديا ؛ لأن نص إمامه في حقه كنص الشارع في حق المستقل ، وأما إذا لم يعلم المستفتي برجوعه . فكأنه لم يرجع في حقه ، ويلزم المفتي إعلامه برجوعه قبل العمل ، وكذا بعده حيث يجب النقض ، وإذا عمل بفتواه في إتلاف ، ثم بان أنه أخطأ ، وخالف القاطع ، فقال المفتي إنما يفتي على مذهب إمام معين ، فرجع لكونه تيقن مخالفة نص إمامه : إن كان أهلا للفتوى ضمن ، وإلا فلا ؛ لأن المستفتي مقصر ، وهذا الذي قاله فيه نظر ، وينبغي أن يخرج على [ ص: 108 ] قولي الغرور أو يقطع بعدم الضمان مطلقا إذا لم يوجد منه الإتلاف ، ولا ألجأ إليه بإلزام . والله أعلم . الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني