فصل
وإذا ثبت هذا; فيصح أيضا أن كقوله تعالى : يتعلق الحب والبغض بالأفعال; لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم [ النساء : 148 ] .
ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم [ التوبة : 46 ] .
. أبغض الحلال إلى الله الطلاق
. ليس أحد أحب إليه المدح من الله ، من أجل ذلك مدح نفسه
[ ص: 191 ] وهذا كثير .
وإذا قلت : أحب الشجاع وأكره الجبان; فهذا حب وكراهة يتعلقان بذات موصوفة لأجل ذلك الوصف; نحو قوله تعالى : والله يحب المحسنين [ آل عمران : 134 ] .
والله يحب الصابرين [ آل عمران : 146 ] .
إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين [ البقرة : 222 ] .
وفي القرآن أيضا : إن الله لا يحب كل مختال فخور [ لقمان : 18 ] .
والله لا يحب الظالمين [ آل عمران : 57 ] .
وفي الحديث : . إن الله يبغض الحبر السمين
[ ص: 192 ] [ ص: 193 ] فإذا; الحب والبغض مطلق في الذوات والصفات والأفعال ; فتعلقهما بها تعلق بالماهية من حيث إنها ذات أو صفة أو فعل .
وأما النظر الثاني وهو أن يقال : هل يصح أن يتعلق بتلك الأوصاف - وهي غير المقدورة للإنسان إذا اتصف بها - الثواب والعقاب أم لا يصح ؟
هذا يتصور في ثلاثة أوجه :
أحدها : أن لا يتعلق بها ثواب ولا عقاب .
والثاني : أن يتعلقا معا بها .
والثالث : أن يتعلق بها أحدهما دون الآخر .
أما هذا الأخير; فيؤخذ النظر فيه من النظر في الوجهين لأنه مركب منهما .
فأما الأول; فيستدل عليه بوجهين :
أحدهما : أن الأوصاف المطبوع عليها وما أشبهها لا يكلف بإزالتها ولا بجلبها شرعا; لأنه تكليف بما لا يطاق ، وما لا يكلف به لا يثاب عليه ولا يعاقب ، لأن الثواب والعقاب تابع للتكليف شرعا; فالأوصاف المشار إليها لا [ ص: 194 ] ثواب عليها ولا عقاب .
والثاني : أن الثواب والعقاب على تلك الأوصاف; إما أن يكون من جهة ذواتها من حيث هي صفات أو من جهة متعلقاتها ، فإن كان الأول لزم في كل صفة منها أن تكون مثابا عليها ، كانت صفة محبوبة أو مكروهة شرعا ، ومعاقبا عليها أيضا كذلك ، لأن ما وجب للشيء وجب لمثله ، وعند ذلك يجتمع الضدان على الصفة الواحدة من جهة واحدة ، وذلك محال ، وإن كان من حيث متعلقاتها ، فالثواب والعقاب على المتعلقات - وهي الأفعال والتروك - لا عليها ، فثبت أنها في أنفسها لا يثاب عليها ولا يعاقب ، وهو المطلوب .
وأما الثاني; فيستدل عليه أيضا بأمرين :
أحدهما : أن الأوصاف المذكورة قد ثبت تعلق الحب والبغض بها ، والحب والبغض من الله تعالى; إما أن يراد بهما نفس الإنعام أو الانتقام; فيرجعان إلى صفات الأفعال على رأي من قال بذلك ، وإما أن يراد بهما إرادة الإنعام والانتقام; فيرجعان إلى صفات الذات لأن نفس الحب والبغض المفهومين في كلام العرب حقيقة محالان على الله تعالى ، وهذا رأي طائفة [ ص: 195 ] أخرى ، وعلى كلا الوجهين ، فالحب والبغض راجعان إلى نفس الإنعام أو الانتقام ، وهما عين الثواب والعقاب; فالأوصاف المذكورة إذا يتعلق بها الثواب والعقاب .
والثاني : أنا لو فرضنا أن الحب والبغض لا يرجعان إلى الثواب والعقاب فتعلقهما بالصفات; إما أن يستلزم الثواب والعقاب ، أو لا ، فإن استلزم فهو المطلوب ، وإن لم يستلزم ، فتعلق الحب والبغض إما للذات ، وهو محال ، وإما لأمر راجع إلى الله تعالى ، وهو محال ، لأن الله غني عن العالمين ، تعالى أن يفتقر لغيره أو يتكمل بشيء ، بل هو الغني على الإطلاق ، وذو الكمال بكل اعتبار ، وإما للعبد وهو الجزاء; لا زائد يرجع للعبد إلا ذلك .
[ ص: 196 ] [ ص: 197 ] [ ص: 198 ] [ ص: 199 ] [ ص: 200 ] وأمر ثالث : وهو أنه لو سلم أنها محبوبة أو مكروهة من جهة متعلقاتها وهو الأفعال فلا يخلو أن يكون الجزاء على تلك الأفعال مع الصفات مثل الجزاء عليها بدون تلك الصفات ، أو لا ، فإن كان الجزاء متفاوتا; فقد صار للصفات قسط من الجزاء ، وهو المطلوب ، وإن كان متساويا; لزم أن يكون فعل أشج عبد القيس حين صاحبه الحلم والأناة مساويا لفعل من لم يتصف بهما وإن استويا في الفعل ، وذلك غير صحيح ، لما يلزم عليه من أن يكون المحبوب عند الله مساويا لما ليس بمحبوب ، واستقراء الشريعة يدل على خلاف ذلك .
وأيضا يلزم أن يكون ما هو محبوب ليس بمحبوب ، وبالعكس ، وهو محال; فثبت أن للوصف حظا من الثواب أو العقاب ، وإذا ثبت أن له حظا ما من الجزاء ثبت مطلق الجزاء; فالأوصاف المطبوع عليها وما أشبهها مجازى عليها ، وذلك ما أردنا .
[ ص: 201 ] وما تقدم ذكره من الأدلة على أنه لا يثاب عليها مشكل .
أما الأول; فإن الثواب والعقاب مع التكليف لا يتلازمان ، فقد يكون الثواب والعقاب على غير المقدور للمكلف ، وقد يكون التكليف ولا ثواب ولا عقاب; فالأول مثل المصائب النازلة بالإنسان اضطرارا ، علم بها أو لم يعلم ، والثاني; كشارب الخمر ، فإنه جاء أن الصلاة لا تقبل منه أربعين يوما ، ولا أعلم أحدا من أهل السنة يقول بعدم إجزاء صلاته إذا استكملت [ ص: 202 ] أركانها وشروطها ، ولا خلاف أيضا في وجوب الصلاة على كل مسلم ، عدلا كان أو فاسقا ، وإذا لم يتلازما لا يصح هذا الدليل . ومن أتى عرافا;
وأما الثاني; فقد اعترضه الدليل الثالث الدال على الجزاء ، فقوله : إن الجزاء وقع على العمل أو الترك إن أراد به مجردا كما يقع دون الوصف; فقد ثبت بطلانه ، وإن أراد به مع اقتران الوصف فقد صار للوصف أثر في الثواب والعقاب ، وذلك دليل دال على صحة الجزاء عليه لا على نفيه .
ولصاحب المذهب الأول أن يعترض على الثاني في أدلته :
أما الأول ، فإنه إذا صار معنى الحب والبغض إلى الثواب والعقاب امتنع أن يتعلقا بما هو غير مقدور ، وهو الصفات والذوات المخلوق عليها .
وأما الثاني; فإن القسمة غير منحصرة; إذ من الجائز أن يتعلقا لأمر راجع للعبد غير الثواب أو العقاب ، وذلك كونه اتصف بما هو حسن أو قبيح في مجاري العادات .
وأما الثالث; فإن الأفعال لما كانت ناشئة عن الصفات; فوقوعها على حسبها في الكمال أو النقصان ، فنحن نستدل بكمال الصنعة على كمال [ ص: 203 ] الصانع وبالضد; فكذلك هاهنا وعند ذلك يختص الثواب بالأفعال ، ويكون التفاوت راجعا إلى تفاوتها لا إلى الصفات ، وهو المطلوب .
فالحاصل أن النظر يتجاذبه الطرفان ، ويحتمل تحقيقه بسطا أوسع من هذا ، ولا حاجة إليه في هذا الموضع ، وبالله التوفيق .