الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال : الدرجة الثالثة : الفناء عن شهود الفناء ، وهو الفناء حقا ، شائما برق العين ، راكبا بحر الجمع ، سالكا سبيل البقاء .

الفرق بين الفناء في هذه الدرجة والتي قبلها أنه في التي قبلها قد فني عن شهود طلبه وعلمه وعيانه ، مع شعوره بفنائه عن ذلك ، وفي هذه الدرجة قد فني عن ذلك كله ، وفني عن شهود فنائه ، كما يقال : آخر من يموت ملك الموت .

وإنما كان هذا الفناء عنده هو الفناء حقا ؛ لأنه قد فني فيه كل ما سوى الحق سبحانه ؛ لأن صاحبه يشهد الفناء قد فني ، فلم يبق سوى الواحد القهار .

وقوله " شائما برق العين " الشائم الناظر من بعد ، وبرق العين نور الحقيقة ، وقد تقدم التنبيه على استحالة تعلق هذا بالنور الخارجي ، وإنما هو أنوار القرب والمراقبة والحضور مع الله .

[ ص: 351 ] وقوله " راكبا بحر الجمع " " الجمع " الذي يشيرون إليه : عبارة عن شخوص البصيرة إلى مجرد مصدر المتفرقات كلها ، كما سيأتي بيانه في بابه - إن شاء الله تعالى - وركوب لجة هذا الجمع هو فناؤه فيه .

قوله " سالكا سبيل البقاء " يعني : أن من فني فقد تأهل للبقاء بالحق ، وهذا البقاء هو بعد الفناء ، فإنه إذا تحقق بالفناء رفع له علم الحقيقة ، فشمر إليه سالكا في طريق البقاء ، وهي القيام بالأوراد ، وحفظ الواردات ، فحينئذ يرجى له الوصول .

فصل

لم يرد في الكتاب ، ولا في السنة ، ولا في كلام الصحابة والتابعين مدح لفظ الفناء ولا ذمه ، ولا استعملوا لفظه في هذا المعنى المشار إليه البتة ، ولا ذكره مشايخ الطريق المتقدمون ، ولا جعلوه غاية ولا مقاما ، وقد كان القوم أحق بكل كمال ، وأسبق إلى كل غاية محمودة ، ونحن لا ننكر هذا اللفظ مطلقا ، ولا نقبله مطلقا .

ولابد فيه من التفصيل ، وبيان صحيحه من معلوله ، ووسيلته من غايته ، فنقول - وبالله التوفيق ، وهو الفتاح العليم :

حقيقة " الفناء " المشار إليه هو استهلاك الشيء في الوجود العلمي الذهني ، وهاهنا تقسمه أهل الاستقامة وأهل الزيغ والإلحاد ، فزعم أهل الاتحاد - القائلون بوحدة الوجود - أن الفناء هو غاية الفناء عن وجود السوى ، فلا يثبت للسوى وجود البتة ، لا في الشهود ولا في العيان ، بل يتحقق بشهود وحدة الوجود ، فيعلم حينئذ أن وجود جميع الموجودات هو عين وجود الحق ، فما ثم وجودان ، بل الموجود واحد ، وحقيقة الفناء عندهم أن يفنى عما لا حقيقة له ، بل هو وهم وخيال ، فيفنى عما هو فان في نفسه ، لا وجود له ، فيشهد فناء وجود كل ما سواه في وجوده ، وهذا تعبير محض ، وإلا ففي الحقيقة ليس عند القوم " سوى " ولا " غير " وإنما السوى والغير في الوهم والخيال ، فحول هذا الفناء يدندنون وعليه يحومون .

وأما أهل التوحيد والاستقامة : فيشيرون بالفناء إلى أمرين ، أحدهما أرفع من الآخر .

[ ص: 352 ] الأمر الأول : الفناء في شهود الربوبية والقيومية ، فيشهد تفرد الرب تعالى بالقيومية والتدبير ، والخلق والرزق ، والعطاء والمنع ، والضر والنفع ، وأن جميع الموجودات منفعلة لا فاعلة ، وما له منها فعل فهو منفعل في فعله ، محل محض لجريان أحكام الربوبية عليه ، لا يملك شيئا منها لنفسه ولا لغيره ، فلا يملك ضرا ولا نفعا ، فإذا تحقق العبد بهذا المشهد ؛ خمدت منه الخواطر والإرادات ، نظرا إلى القيوم الذي بيده تدبير الأمور ، وشخوصا منه إلى مشيئته وحكمته فهو ناظر منه به إليه ، فان بشهوده عن شهود ما سواه ، ومع هذا فهو ساع في طلب الوصول إليه ، قائما بالواجبات والنوافل .

الأمر الثاني : الفناء في مشهد الإلهية ، وحقيقته " الفناء " عن إرادة ما سوى الله ومحبته ، والإنابة إليه ، والتوكل عليه ، وخوفه ورجائه ، فيفنى بحبه عن حب ما سواه ، وبخوفه ورجائه عن خوف ما سواه ورجائه ، وحقيقة هذا الفناء إفراد الرب سبحانه بالمحبة ، والخوف والرجاء ، والتعظيم والإجلال ، ونحن نشير إلى مبادئ ذلك وتوسطه وغايته ، فنقول :

اعلم أن القلب إذا خلا من الاهتمام بالدنيا والتعلق بما فيها من مال ، أو رياسة أو صورة ، وتعلق بالآخرة ، والاهتمام بها من تحصيل العدة ، والتأهب للقدوم على الله عز وجل فذلك أول فتوحه ، وتباشير فجره ، فعند ذلك يتحرك قلبه لمعرفة ما يرضى به ربه منه ، فيفعله ويتقرب به إليه ، وما يسخطه منه ، فيجتنبه ، وهذا عنوان صدق إرادته ، فإن كل من أيقن بلقاء الله ، وأنه سائله عن كلمتين - يسأل عنهم الأولون والآخرون - ماذا كنتم تعبدون ؟ وماذا أجبتم المرسلين ؟ لابد أن يتنبه لطلب معرفة معبوده ، والطريق الموصلة إليه ، فإذا تمكن في ذلك فتح له باب الأنس بالخلوة والوحدة والأماكن الخالية التي تهدأ فيها الأصوات والحركات ، فلا شيء أشوق إليه من ذلك ، فإنها تجمع عليه قوى قلبه وإرادته ، وتسد عليه الأبواب التي تفرق همه وتشت قلبه ، فيأنس بها ويستوحش من الخلق .

ثم يفتح له باب حلاوة العبادة بحيث لا يكاد يشبع منها ، ويجد فيها من اللذة والراحة أضعاف ما كان يجده في لذة اللهو ، واللعب ، ونيل الشهوات ، بحيث إنه إذا دخل في الصلاة ، ود أن لا يخرج منها ، ثم يفتح له باب حلاوة استماع كلام الله فلا يشبع منه ، وإذا سمعه هدأ قلبه به كما يهدأ الصبي إذا أعطي ما هو شديد المحبة له ، ثم يفتح له باب شهود عظمة الله المتكلم به وجلاله ، وكمال نعوته وصفاته وحكمته ، ومعاني خطابه ، بحيث يستغرق قلبه في ذلك حتى يغيب فيه ، ويحس بقلبه وقد دخل [ ص: 353 ] في عالم آخر غير ما الناس فيه .

ثم يفتح له باب الحياء من الله ، وهو أول شواهد المعرفة ، وهو نور يقع في القلب ، يريه ذلك النور أنه واقف بين يدي ربه عز وجل ، فيستحي منه في خلواته ، وجلواته ، ويرزق عند ذلك دوام المراقبة للرقيب ، ودوام التطلع إلى حضرة العلي الأعلى ، حتى كأنه يراه ويشاهده فوق سماواته ، مستويا على عرشه ، ناظرا إلى خلقه ، سامعا لأصواتهم ، مشاهدا لبواطنهم ، فإذا استولى عليه هذا الشاهد غطى عليه كثيرا من الهموم بالدنيا وما فيها ، فهو في وجود والناس في وجود آخر ، هو في وجود بين يدي ربه ووليه ، ناظرا إليه بقلبه ، والناس في حجاب عالم الشهادة في الدنيا ، فهو يراهم وهم لا يرونه ، ولا يرون منه إلا ما يناسب عالمهم ووجودهم .

ثم يفتح له باب الشعور بمشهد القيومية ، فيرى سائر التقلبات الكونية وتصاريف الوجود بيده سبحانه وحده ، فيشهده مالك الضر والنفع ، والخلق والرزق ، والإحياء والإماتة ، فيتخذه وحده وكيلا ، ويرضى به ربا ومدبرا وكافيا ، وعند ذلك إذا وقع نظره على شيء من المخلوقات دله على خالقه وبارئه ، وصفات كماله ونعوت جلاله ، فلا يحجبه خلقه عنه سبحانه ، بل يناديه كل من المخلوقات بلسان حاله : اسمع شهادتي لمن أحسن كل شيء خلقه ، فأنا صنع الله الذي أتقن كل شيء .

فإذا استمر له ذلك فتح عليه باب القبض والبسط ، فيقبض عليه حتى يجد ألم القبض لقوة وارده ، ثم يقبض وعاءه بأنوار الوجود ، فيفنى عن وجوده ، وينمحي كما يمحو نور الشمس نور الكواكب ، ويطوي الكون عن قلبه بحيث لا يبقى فيه إلا الله الواحد القهار ، وتفيض أنوار المعرفة والمعاملة والصدق والإخلاص والمحبة من قلبه ، كما يفيض نور الشمس عن جرمها ، فيغرق حينئذ في الأنوار كما يغرق راكب البحر في البحر ، وذلك إنما يكون في الرياضة والمجاهدة ، وزوال أحكام الطبيعة ، وطول الوقوف في الباب .

وهذا هو من علم اليقين ، لا من عين اليقين ، ولا من حق اليقين ، إذ لا سبيل إليهما في الدار ، فإن عين اليقين مشاهدة ، وحق اليقين مباشرة ، نعم قد يكون حق اليقين في هذه الدنيا بالنسبة إلى الوجود الذهني ، وما يقوم بالقلوب فقط ، ليس إلا ، كما تقدم تقريره مرارا ، ونحن لا تأخذنا في ذلك لومة لائم ، وهم لا تأخذهم في كون ذلك في العيان لومة لائم وهم عندنا صادقون ملبوس عليهم ، ونحن عندهم محجوبون عن ذلك غير واصلين إليه .

[ ص: 354 ] فإن استمر على حاله واقفا بباب مولاه ، لا يلتفت عنه يمينا ولا شمالا ، ولا يجيب غير من يدعوه إليه ، ويعلم أن الأمر وراء ذلك ، وأنه لم يصل بعد ، ومتى توهم أنه قد وصل انقطع عنه المزيد - رجي أن يفتح له فتح آخر ، هو فوق ما كان فيه ، مستغرقا قلبه في أنوار مشاهدة الجلال بعد ظهور أنوار الوجود الحق ، ومحو وجوده هو ، ولا يتوهم أن وجود صفاته وذاته تبطل ، بل الذي يبطل هو وجوده النفساني الطبعي ، ويبقى له وجود قلبي روحاني ملكي ، فيبقى قلبه سابحا في بحر من أنوار آثار الجلال ، فتنبع الأنوار من باطنه ، كما ينبع الماء من العين ، حتى يجد الملكوت الأعلى كأنه في باطنه وقلبه ، ويجد قلبه عاليا على ذلك كله ، صاعدا إلى من ليس فوقه شيء ، ثم يرقيه الله سبحانه ، فيشهده أنوار الإكرام بعد ما شهد أنوار الجلال ، فيستغرق في نور من أنوار أشعة الجمال ، وفي هذا المشهد يذوق المحبة الخاصة الملهبة للأرواح والقلوب ، فيبقى القلب مأسورا في يد حبيبه ووليه ، ممتحنا بحبه ، وإن شئت أن تفهم ذلك تقريبا ، فانظر إليك وإلى غيرك - وقد امتحنت بصورة بديعة الجمال ظاهرا وباطنا - فملكت عليك قلبك وفكرك ، وليلك ونهارك ، فيحصل لك نار من المحبة ، فتضرم في أحشائك يعز معها الاصطبار ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .

فيا له من قلب ممتحن مغمور مستغرق بما ظهر له من أشعة أنوار الجمال الأحدى ، والناس مفتونون ممتحنون بما يفنى من المال والصور والرياسة ، معذبون بذلك قبل حصوله ، وحال حصوله ، وبعد حصوله ، وأعلاهم مرتبة من يكون مفتونا بالحور العين ، أو عاملا على تمتعه في الجنة بالأكل والشرب واللباس والنكاح ، وهذا المحب قد ترقى في درجات المحبة على أهل المقامات ، ينظرون إليه في الجنة كما ينظرون إلى الكوكب الدري الغابر في الأفق لعلو درجته وقرب منزلته من حبيبه ، ومعيته معه ، فإن المرء مع من أحب ولكل عمل جزاء ، وجزاء المحبة المحبة والوصول والاصطناع والقرب ، فهذا هو الذي يصلح ، وكفى بذلك شرفا وفخرا في عاجل الدنيا ، فما ظنك بمقاماتهم العالية عند مليك مقتدر ؟ فكيف إذا رأيتهم في موقف القيامة ، وقد أسمعهم المنادي " لينطلق كل قوم مع ما كانوا يعبدون " فيبقون في مكانهم ينتظرون معبودهم وحبيبهم الذي هو أحب شيء إليهم ، حتى يأتيهم ، فينظرون إليه ويتجلى لهم ضاحكا .

والمقصود : أن هذا العبد لا يزال الله يرقيه طبقا بعد طبق ، ومنزلا بعد منزل ، إلى أن يوصله إليه ، ويمكن له بين يديه ، أو يموت في الطريق ، فيقع أجره على الله ، فالسعيد كل السعيد ، والموفق كل الموفق من لم يلتفت عن ربه تبارك وتعالى يمينا [ ص: 355 ] ولا شمالا ، ولا اتخذ سواه ربا ولا وكيلا ، ولا حبيبا ولا مدبرا ، ولا حكما ولا ناصرا ولا رازقا .

وجميع ما تقدم من مراتب الوصول إنما هي شواهد وأمثلة إذا تجلت له الحقائق في الغيب - بحسب استعداده ولطفه ورقته من حيث لا يراها - ظهر من تجليها شاهد في قلبه ، وذلك الشاهد دال عليها ليس هو عينها ، فإن نور الجلال في القلب ليس هو نور ذي الجلال في الخارج ، فإن ذلك لا تقوم له السماوات والأرض ، ولو ظهر للوجود لتدكدك ، لكنه شاهد دال على ذلك ، كما أن المثل الأعلى شاهد دال على الذات ، والحق وراء ذلك كله ، منزه عن حلول واتحاد ، وممازجة لخلقه ، وإنما تلك رقائق وشواهد تقوم بقلب العارف ، تدل على قرب الألطاف منه في عالم الغيب حيث يراها ، وإذا فني فإنما يفنى بحال نفسه لا بالله ولا فيه ، وإذا بقي فإنما يبقى بحاله هو ووصفه ، لا ببقاء ربه وصفاته ، ولا يبقى بالله إلا الله ، ومع ذلك فالوصول حق ، يجد الواصل آثار تجلي الصفات في قلبه ، وآثار تجلي الحق في قلبه ، ويوقف القلب فوق الأكوان كلها بين يدي الرب تعالى ، وهو على عرشه ، ومن هناك يكاشف بآثار الجلال والإكرام ، فيجد العرش والكرسي تحت مشهد قلبه حكما ، وليس الذي يجده تحت قلبه حقيقة العرش والكرسي ، بل شاهد ومثال علمي ، يدل على قرب قلبه من ربه ، وقرب ربه من قلبه ، وبين الذوقين تفاوت ، فإذا قرب الرب تعالى من قلب عبده بقيت الأكوان كلها تحت مشهد قلبه ، وحينئذ يطلع في أفقه شمس التوحيد ، فينقشع بها ضباب وجوده ويضمحل ويتلاشى ، وذاته وحقيقته موجودة بائنة عن ربه ، وربه بائن عنه ، فحينئذ يغيب العبد عن نفسه ويفنى ، وفي الحقيقة هو باق ، غير فان ، ولكنه ليس في سره غير الله ، قد فني فيه عن كل ما سواه .

نعم قد يتفق له في هذه الحالة أن لا يجد شيئا غير الله فذلك لاستغراق قلبه في مشهوده وموجوده ، ولو كان ذلك في نفس الأمر ؛ لكان العبد في هذه الحال خالقا بارئا مصورا أزليا أبديا .

فعليك بهذا الفرقان ، واحذر فريقين هما أعدى عدو لهذا الشأن : فريق الجهمية المعطلة ، التي ليس عندها فوق العرش إلا العدم المحض ، فشم رائحة هذا المقام من أبعد الأمكنة حرام عليها ، وفريق أهل الاتحاد القائلين بوحدة الوجود وأن العبد ينتهي في هذا السفر إلى أن يشهد وجوده هو عين وجود الحق جل جلاله ، وعيشك بجهلك خير من معرفة هاتين الطائفتين ، وانقطاعك مع الشهوات خيرك معهما ، والله المستعان وعليه التكلان .

التالي السابق


الخدمات العلمية