الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        المصطلـح (خيار لغوي وسمة حضارية)

        سعيد شبار

        المبحث الأول: المصطلح ومنطق التبرير

        نأخذ نصا لمفكر محكوم بخلفية مرجعية حادة تجاه قضايا الفكر العربي الإسلامي، والقصد هـو الـمصطلحات والمفاهيم المتناثرة في النص بشكل عشوائي لا لغرض إلا للتبرير والانتصار... هـذا -وهذا أعجب- في سياق نقده واعتراضه على من يوظف المصطلحات، ويقلب معانيها إلى أضدادها.

        يذهب إلى أن ممثلي (السلفية المحدثة) يمارسون استراتيجية التسمية بذكاء، فهم لا يكتفون بأن يقلبوا الموقع السلفي الخاسر في هـذه الاستراتيجية إلى موقع رابح، وذلك بإطلاقهم على ما كان [ ص: 115 ] يعرف في عصر النهضة بـ (التقليد) ، اسم (الأصالة) و (التراث) ، بل يقلبون أيضا موقع التجديديين الرابح إلى موقع خاسر بتعميدهم (التمدن) و (التقدم) و (التجديد) و (التحديث) باسم (التغريب) ذي الوقع الجارح للشعور بالهوية. إذ تشاء المصادفة اللغوية [كذا] أن يعني التغريب: لا صيرورة المرء غربيا فحسب (Occidentalisation) ، بل صيرورته أيضا غريبا ومستلبا عن ذاته (Alienation) ، والحال أن مؤلف الإسلام في معركة الحضارة [يقصد منير شفيق]، إذ يصر على تسمية الحضارة الغربية بالحضارة الإفرنجية فإنما ليدمغ (التحديث) بأنه (تفرنج) ، وهو مفهوم سلوكي مرذول في الوعي الشعبي العربي، وليربطه في الوقت نفسه بواحدة من أكثر الذكريات الصادمة اعتمالا في الشعور واللاشعور الجمعي العربي الحملات الصليبية، التي تحتل موقعها في الذاكرة التاريخية باعتبارها حملات فرنجية [1] .

        هذه الظاهرة، ظاهرة امتطاء صهوة المصطلح، واقتياده من غير [ ص: 116 ] خطام ليجول في المناطق الشائكة والوعرة، نجدها بشكل أوضح عند بعض أصحاب المشاريع، أو القراءات الجديدة، أو (التجديدية) . وإذا تم استبعاد طائفة من هـذه القراءات لمفارقتها للمقتضيات المرجعية والمنهجية للفكر الإسلامي، فإن طائفة أخرى منها تتلبس بكثير من تلك المقتضيات وتفرض نفسها بقوة من خلالها في المجالات العلمية والثقافية العربية والإسلامية.

        لا نريد الإغراق في الجزئيات والتفاصيل، وإنما المراد التركيز على بعض المصطلحات الموجهة لمثل هـذه الأعمال [2] . فصاحب (الثابت والمتحول) -مثلا- يجعل من مصطلح (الاتباعية) محورا يفهم من خلاله الأصول الإسلامية قرآنا وسنة وفكرا ناجزا [ ص: 117 ] حولهما، معتبرا تلك الأصول تكرس هـذه (الاتباعية) وتجعل الفكر (لا يفهم ولا يعرف إلا بالارتباط بهما؛ بحيث تعطل وتغيب ملكات العقل والإبداع والنظر لمعرفة الجديد والإسهام فيه، والاكتفاء بالقديم الذي هـو قديم وحاضر ومستقبل في نفس الوقت) ، موظفا في ذلك مصطلحات دون ضبط لغوي ولا شرعي لها كـ (الاتباع) و (البدعة) و (الإحداث) ... وغيرها، بحيث يعمد إلى تضخيم المعاني السلبية التي جاءت هـي أصلا لمحاربتها، لتصبح تلك المعاني وكأنها المعاني الوحيدة المرادة من تلك المصطلحات [3] .

        وإذا ما تم تجاوز مطلب التتبع والاستقراء للنصوص والآثار والتعريفات الواردة بخصوص تلك المصطلحات للوقوف على المعاني والدلالات المختلفة التي وظفت لأجلها، لأن هـذا من المطالب الوعرة وغير المرغوب فيها غالبا عند أصحاب هـذا الاتجاه، فإنه لا يمكن بحال تجاوز الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة في أن نظام المعرفة في الإسلام يستنفر كل وسائل وأجهزة المعرفة [ ص: 118 ] التي هـي جزء من الإنسان نفسه؛ من سمع وبصر وفؤاد وقلب وعقل وجوارح... على تداخل بينها؛ لتقوم بوظائفها المطلوبة من تدبر وتفكر ونظر وتعقل وتفقه... إلخ. واختزال هـذا كله في معنى سلبي من معاني (الاتباع) -وهو غير مراد شرعا- فيه مغالطة كبيرة وجهل فادح، وتحريف للكلم عن مواضعه.

        ويذهب داعية (التاريخية) في الفكر العربي الإسلامي المعاصر إلى استخدام مصطلح ( الحدث الإسلامي ) بدل الإسلام؛ لأسباب يشرحها كما يلي: (إن مصطلح: الحدث الإسلامي، الذي نستخدمه عن قصد بدلا من مصطلح الإسلام الشائع على كل شفة ولسان؛ يتيح لنا أن نصيب عدة أهداف في ضربة واحدة: فهو يتيح لنا أولا: تجذير الإسلام في التاريخية، بدلا من أن يبقى مفهوما مثاليا مجردا خارج الزمان والمكان. وهو ثانيا: يتيح لنا أن ننظف مفهوم الإسلام من كل التراكمات والإضافات الحشوية وأنواع الخلط التي لحقت به عبر القرون.) [4] والتساؤل الذي يـمكن طرحه هـنا: هـو إذا تـم تجذير الإسلام -بما هـو وحي- أي ربطه بعوامل الزمان والمكان، فكيف يمكن [ ص: 119 ] تنظيفه من التراكمات والإضافات التي هـي بنت الزمان والمكان، ونتاج لهما؟ بأي مقياس يتم ذلك إذا لم يكن بمقياس الوحي المفارق للزمان والمكان المستوعب لهما في نفس الآن.

        أيكون بمقياس العقل، أم الواقع، أم التجربة؟ وهل تم ما تم إلا باسم هـذه المقاييس المشتركة بين الناس المحكومة بسياقات الزمان والمكان؟ وفي محاولة استدراك -لا تزيد في الواقع ما تقدم إلا تقريرا- على أن يحمل كلامه على الإسلام محملا عاما، يميز الكاتب بين (الحدث القرآني في القرن السابع الميلادي، وبين الحدث الإسلامي الذي تبلور فيما بعد. فالأول: يدل على الانبثاق التاريخي لظاهرة جديدة؛ ظاهرة محصورة تماما في الزمان والمكان... وأما الثاني: فلا يتفرع عن الأول بشكل كلي كما يتوهم جمهور المسلمين، أو كما يعتقد التراث التبجيلي السائد، فهذا التراث لا يهتم إطلاقا بالنقد التاريخي؛ أي بالتأكد من صحة الأمور والوقائع تاريخيا، وإنما هـو يهتم بترسيخ القدوة والموعظة والنموذج الصالح.) [5] والذي يهمنا هـنا -كما تقدم- هـو الوقوف على المصطلح -المحور الموجه عند الكاتب- ولا شك في أن مصطلح (الحدث) موظف هـنا [ ص: 120 ] توظيفا (فلسفيا) (كلاميا) ؛ أي بالمعنى المتداول في الفكر الفلسفي والكلامي، ونظرية (الحدوث) كان لها من الرواج ما كان في فترة نشاط هـذا الفكر، ووظفت في مجالات كثيرة وصلت إلى مناقشة حدوث الأسماء والصفات والأفعال المتعلقة بالذات الإلهية، ودلالاتها الموضوعة لها في هـذا العلم عموما، حدوث الشيء وظهوره في زمان ومكان، مسبوقا بهما ومؤطرا بهما، ولهذا يستعمل الحدوث في مقابل القدم، بمعنى الجدة أو الجديد [6] . و (الحدث الإسلامي) أو (الحدث القرآني) -عند الكاتب- لا يخرج عن هـذا السياق. ولا ينبغي أن يحمل معنى الحدث هـنا محملا نظريا مجردا، إذ صحيح أن القرآن والإسلام ظهرا في زمان ومكان، ولكن المراد تأثير الزمان والمكان في النشأة والظهور، وتحكمهما في بلورة وصياغة المبادئ والتصورات وغير ذلك.

        يستعمل الكاتب أيضا بدل ( أهل الكتاب ) مصطلح [ ص: 121 ] ( مجتمعات الكتاب ) ، وهو بعد (اختراعه لهذا المصطلح وبلورته له) كان يهدف إلى أمرين: الأول: زحزحة التحليل من الأرضية اللاهوتية والجدالية غالبا لما يدعوه القرآن (بأهل الكتاب) ، إلى الأرضية الأرحب والأوسع (لمجتمعات الكتاب) ... فمصطلح مجتمعات الكتاب يضم كل أديان الكتاب بما فيها الإسلام نفسه... والثاني: أن ذلك يتيح لنا أن نفرض إشكالية ألسنية وأنثروبولوجية للوحي؛ بمعنى أن ندرس الوحي كظاهرة لغوية لأنه مكتوب بحروف لغة بشرية، وبالتالي تنطبق عليه قوانين التفسير والتأويل اللغوي التي تنطبق على النصوص الأخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية الخطاب الديني، ثم دراسته كظاهرة أنثروبولوجية، بمعنى انتشاره في المجتمعات البشرية الأكثر تنوعا واختلافا [7] .

        من الملاحظات التي يمكن أن تتوجه على النص: إن الكاتب ينتزع مصطلح ( أهل الكتاب ) من سياق قرآني يقوم على التصديق والهيمنة على ما عند أهل الكتاب في كتبهم، في حين أن مصطلح ( مجتمعات الكتاب ) ينفي هـذه الخاصية عن القرآن ليسوي بينه وبين سائر الكتب، دون أي اعتبار تاريخي للكتب [ ص: 122 ] المنزلة، ودون أي اعتبار لما طرأ على الكتب الأخرى من تحريف وتبديل، دون أي اعتبار للغة التي دونت بها هـذه الكتب؛ إذ الكتب السماوية السابقة بعد ضياع أصولها دونت بعد ذلك بقرون من محفوظ الأحبار والرهبان، وكان هـذا من أكبر مداخل التحريف فيها، فضلا عما أضافته الترجمات والفرق العديدة من تحريفات أخرى [8] .

        والفارق كبير، بمنهجية التحليل التاريخي نفسها التي يعتمدها الكاتب، بين هـذه الكتب. وبين كتاب حافظ على نصه اللغوي الأصلي الذين نزل به أول مرة تماما، كما حافظ على مضمونه من التحريف والتبديل. والـجمع بيـن مخـتلـفـات، تـحت اسم (الحقيقة الدينـية الـكلـية) -كما يسميها أحيانا- أو (مجتمعات الكتاب) من أجل دراستها [ ص: 123 ] دراسة ألسنية، (أنثروبولوجية) ، دون تسليم بالمقدمات السالفة، لن تكون نتيجته إلا ما تم تقريره سلفا من (تاريخية النص) أو (الحدث القرآني) ، المقدمة المسلمة الكامنة.

        ولا أدري ما المـانع من إنـجاز هـذه الدراسة داخـل بنـية كل نص (مع الأخذ بعين الاعتبار بخصـوصـية الـخطاب الديني) ، كما قال الكاتب نفسه. وانـظر قريبا من هـذا أيضا حـديثه عن (إسلام أول) أو (الدين القوي) ، و (إسلام ثان) أو (دين أشكال) ، و (إسلام ثالث) أو (دين فردي) . وإذا أمكن غض الطرف عن هـذه التقسيمات باعتبارها (مستويات من المعاني ومن العمل للإسلام.) [9] فإن منهجية عرضها استنادا إلى (الأنثروبولوجيا الدينية) و (التاريخية) لا تسمح لها بالابتعاد كثيرا عن المنطلقات السالفة.

        يطرح أركون بشكل عام، (مشكلة المعجم الاعتقادي القديم) أو ما يسميه أيضا (المعجم الإيماني اللاهوتي القديم) الذي يضم مفردات من قبيل (الوحي، الإيمان، المقدس، الحرام...) ، (مفردات ضخمة كثيفة تملأ علينا أقطار وعينا) ، ومعجم (أصبحت كواهلنا تنوء تحت أكياس... فهو أثقل من أن نتحمله [ ص: 124 ] أو نستطيع حمله بعد الآن، اللهم إلا إذا ما قررنا أن ندخل فعلا في مناخ الحداثة العقلية والمسئولية الثقافية.) [10] وإذا كانت مسألة المراجعة التصحيحية (للمعجم) اللغوي التراثي، لا الاعتقادي فحسب، بل في سائر العلوم الأخرى أيضا من الأمور التي على العموم، يمكن القول: إنه في الفكر العربي المعاصر لا يوجد باحث ولا مفكر له من القدرة والجرأة على نقل المصطلحات وتعريبها بأصولها الأعجمية، خاصة في مجال مناهج البحث، والعلوم الإنسانية [11] ، ومحاولات تطبيقها على العـلـوم الإسلامـية، بالشـكل الـذي يكاد ينفرد به بـمعجم خاص -بمعونة المترجم والشارح د.هاشم صالح - ما لمحمد أركون .

        وإن كان هـذا العمل لا يخلو من إيجابيات من حيث الإفادة من العلوم والمناهج الحديثة، فإن الإغراق إلى حد الافتتان بتتبعه وتنزيل كل ما جد فيه على الفكر الإسلامي وأصوله لمن أخطر المزالق وأكبر المداخل التي يتشوه من خلالها هـذا الفكر، ويتهيأ للالتحاق بأصول أخرى غير أصوله، وحضارة أخرى غير حضارته.

        والكاتب يدعو في أكثر من مناسبة إلى أننا (بحاجة اليوم [ ص: 125 ] أكثر أن نستوعب الحداثة الفكرية في العلوم والميادين كافة. [فـ] نحن بحاجة إلى حركة ترجمة واسعة لا تقل أهمية على حركة الترجمات الكبرى التي سادت في العصور الكلاسيكية زمن المأمون وأدت إلى ازدهار الفكر العربي...) [12]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية