الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        المصطلـح (خيار لغوي وسمة حضارية)

        سعيد شبار

        المبحث الثاني: المصطلح الديني.. والتاريخي

        يشن صاحب (التراث والتجديد) حربا على المصطلحات (التقليدية القديمة) ناسبا إياها تارة إلى العلوم التي تعبر عنها وتنتمي إليها، وتارة إلى عموم (اللغة الدينية) ، دون تمييز بين ما هـو أصيل من صميم الدين، وما هـو عارض من مصطلحات العلوم.

        والكاتب ينطلق عموما من رؤية خاصة بمشروعه حول إعادة ترتيب قضايا علم الكلام - (العلم المقلوب) - عن طريق تحويل [ ص: 126 ] الخطاب من (السماء) إلى (الأرض) ، والانطلاق من الواقع بدل الانطلاق من الوحي، والعناية بموضوع الإنسان الذي هـو محور الخطاب الإلهي، بدل العناية بالنص الإلهي الذي كان محور الخطاب الكلامي [1] . وهذا يتطلب منه إعادة بناء لغة جديدة تساعده على هـذا الترتيب وتسعفه بالمصطلحات والمفاهيم المناسبة للعصر والواقع. يقول:

        (إن العلوم الأساسية في تراثنا القديم ما زالت تعبر عن نفسها بالألفاظ والمصطلحات التقليدية التي نشأت بها هـذه العلوم، والتي تقضي في الوقت نفسه على مضمونها ودلالتها المستقلة، والتي تمنع أيضا إعادة فهمها وتطويرها. يسيطر على هـذه اللغة القديمة الألفاظ والمصطلحات الدينية مثل: الله، الرسول، الدين، الجنة، النار، الثواب، العقاب، كما هـو الحال في علم أصول الدين، أو مثل: الحلال، الحرام، الواجب، المكروه، كما هـو الحال في [ ص: 127 ] علم أصول الفقه، أو التاريخية الملتصقة ببيئة ثقافية معينة مثل: الجوهر، العرض، الممكن، الواجب، الضروري، الحادث، العقل الفعال، العقل المنفعل، كما هـو الحال في التصوف. هـذه اللغة لم تعد قادرة على التعبير عن مضامينها المتجددة طبقا لمتطلبات العصر؛ نظرا لطول مصاحبتها للمعاني التقليدية الشائعة التي نريد التخلص منها...) [2] فداخل سائر العلوم المذكورة هـناك مصطلحات أصيلة تعبر عن حقائق شرعية، وهناك مصطلحات عارضة إما منقولة أو مستحدثة. والتقسيم ينبغي أن يراعي هـذا التمييز.

        وطريقة تجديد اللغة التي يقترحها الكاتب (طريقة تلقائية صرفة، يرجع فيها الشعور من اللفظ التقليدي إلى المعنى الأصلي الذي يفيده، ثم يحاول التعبير من جديد عن هـذا المعنى الأصلي بلفظ ينشأ من اللغة المتداولة كما كان اللفظ التقليدي متداولا شائعا في العصر القديم.) [3] هذه الطريقة إذا كانت مفيدة في تيسير كثير من مصطلحات [ ص: 128 ] العلوم وجعلها مفهومة ومستوعبة في وقتنا الراهن، تحيل دون تعقيد على مضامينها الأصيلة بتحريرها مما شابها عبر العصور أو بتجاوزها أحيانا، فلا ندري كيف يمكن تطبيقها على مصطلحات وأسماء هـي أعمدة الدين وركائزه، كاسم الجلالة (الله) ، والرسول، والجنة، والنار، والحلال، والحرام، والواجب...إلخ؟ هـل يمكن (التخلص) من هـذه الألفاظ (الأصول) والتعبير عن (معناها) أو (مضمونها) بألفاظ أخرى؟ أو تجاوزها بالمرة؟

        لننظر إلى محاولة الكاتب في أكثر هـذه الأسماء أهمية وهو اسم الجلالة (الله) .

        فمن مظاهر القصور التي رصدها الكاتب في اللغة التقليدية، أنها (لغة إلهية تدور الألفاظ فيها حول (الله) ... [الذي] يأخذ دلالات متعددة حسب كل علم... يستعمله الجميع دون تحديد سابق لمعنى اللفظ... بل إن لفظ: (الله) ، يحتوي على تناقض داخلي في استعماله باعتباره مادة لغوية لتحديد المعاني والتصورات، وباعتباره معنى مطلق يراد التعبير عنه بلفظ محدود، يعبر عن اقتضاء أو مطلب ولا يعبر عن معنى معين؛ أي أنه صرخة وجودية أكثر منه معنى يمكن التعبير عنه بلفظ من اللغة أو بتصور من العقل، فهو رد فعل على حالة نفسية أو عن إحساس [ ص: 129 ] ... فكل ما نعتقده ثم نعظمه تعويضا عن فقد يكون في الحس الشعبي هـو الله. وكل ما نصبو إليه ولا نستطيع تحقيقه، فهو أيضا في الشعور الجماهيري هـو الله... فالله عند الجائع هـو الرغيف، وعند المستعبد هـو الحرية، وعند المظلوم هـو العدل... أي أنه في معظم الحالات (صرخة المضطهدين) ، والله في مجتمع يخرج من الخرافة هـو العلم، وفي مجتمع آخر يخرج من التخلف هـو التقدم.) [4] .

        و (إذا كانت اللغة مجرد حامل للمعنى، والمعنى مستقل، فإنه يمكن التعبير عنه بأي لفظ آخر، من أي عصر آخر، ومن أي بيئة ثقافية أخرى.) [5] ، و (الانتقال من لفظ تقليدي إلى لفظ تقليدي آخر مشابه لن يقدم شيئا... ولكن الانتقال من (الله) إلى (الإنسان الكامل) يعبر عن كل مضمون الله، فكل صفات الله: العلم، والقدرة، الحياة، والسمع، البصر، والكلام، والإرادة، هـي كلها صفات الإنسان الكامل، وكل أسماء الله الحسنى تعني آمال الإنسان وغاياته التي يصبو إليها. ( فالإنسان الكامل ) أكثر تعبيرا عن المضمون من لفظ (الله) [6] ، فـ لفظ: (الله) لا يساوى معناه بأي [ ص: 130 ] حال، صحيح أن اللفظ ورد في الوحي، ولكن الإشكال هـو في فهم اللفظ في عصر معين لجماعة معينة من أجل الحصول على معنى حضاري للفظ...) [7] .

        هذا بإيجاز، تصور الكاتب حول اسم الجلالة (الله) باعتباره لفظا أو لغة. ومن أولى الملاحظات التي يمكن توجيهها على هـذا التصور، أنه لا توجد أي محاولة تأصيل للفظ في مظانه وسياقه الخاص، فالموجود هـو تبرير التصور، ومن خلال المدارس الكلامية والفلسفية والصوفية وغيرها التي أضفت المعاني السلبية الكثيرة على المصطلح [8] .

        والكاتب بطرحه هـذا يشكل استمرارا لعصر الانحدار الكلامي،والإضافة الجديدة التي أضافها هـي جرأته في الطرح والتناول. فإذا كان اللفظ في القديم مطروحا (للفهم) ، كما يصرح هـو نفسه: (وما زال علماء أصول الدين يحاولون فهم مدلول اللفظ حتى الآن دون الوصول إلى مدلول واحد.) [9] ، فإنه [ ص: 131 ] بالنسبة إليه مطروح لـ (التخلص منه) و (تجاوزه) .

        مسألة تصور المعنى، والتعبير عنه بما يقابله، هـي من المسائل (الجديدة) عند الكاتب أيضا. والتساؤل هـو: هـل كل ما لا يمكن تصور معناه، ولا التعبير عنه بمقابل له مادي محسوس ينبغي الاستغناء عنه وتعويضه بغيره؟ فعالم الغيب كله من هـذا القبيل والكاتب لا يتردد في التصريح بأن (ألفاظ الجن والملائكة والشياطين، بل والخلق والبعث والقيامة كلها ألفاظ تجاوز الحس والمشاهدة، ولا يمكن استعمالها؛ لأنها لا تشير إلى واقع ولا يقبلها كل إنسان، ولا تؤدي دور الإيصال) [10] . وفي هـذا ما فيه من المغالطة، من حيث الجانب اللغوي لا الديني الشرعي فقط، بل الأدبي والفني أيضا؛ بتجاوز مجال فسيح من الألفاظ ذات المعاني والدلالات الرمزية والمجازية؛ ومـن حـيث مصـادرة إحـسـاس وشعور وقناعة الناس، وإصدار أحكام قيمية تتعلق بـكونهم يقـبلون أو لا يقبلون، يعبرون في لحظات الحزن والفرح بكذا... أو لا يعبرون. وهذا مخالف لشرط (الموافقة) للواقع عند الكاتب. [ ص: 132 ]

        ثم -كما هـو معلوم- إن مسائل الغيب هـي من الأمور التوقيفية التي ورد النهي عن الخوض فيها؛ لعجز العقول عن إدراك حقيقتها وكنهها. وهذا سياق منسجم في خطاب الشرع للمكلف بتوجيهه إلى النظر والتدبر والتفكر والتعقل فيما له مقابل واقعي، وتطاله يده، ويطاله عقله، وبنهيه عما سوى ذلك. فدعا إلى جعل القراءة في الكون دليلا ومعينا على القراءة في الكتاب، وكلا القراءتين دليل على الحق سبحانه. وما أتي الفكر الإسلامي إلا من قبل الحياد عن هـذه السبيل، والتمرغ ظهرا لبطن في هـذه التوقيفيات... وهذه أمور لا تحتاج إلى مزيد من البيان.

        الكاتب يصرح أيضا بأن (مقولتي الإلحاد والإيمان، مقولتان نظريتان، لا تعبران عن شيء واقعي؛ لأن ما يظنه البعض على أنه إلحاد قد يكون هـو جوهر الإيمان، وما يظنه البعض الآخر على أنه إيمان قد يكون هـو الإلحاد بعينه) [11] . وكأن مصطلحي الإلحاد والإيمان ليسا مضبوطين شرعا، وبينهما من التداخل ما يسمح لأحدهما بالتعبير عن نقيضه.

        ولنعد إلى مقولة (الإنسان الكامل) المقابلة للتوحيد أو لاعتقاد [ ص: 133 ] أن (الكمال لله) . هـل للفظ (الكامل) معنى واقعي، له مقابل حـسـي فـي عـالم الشهادة حـسب شـرط الكاتب دائما؟ وإذا كان، فما هـو؟ وأين يوجد؟ وهل يمكن للإنسان أن يدرك الكمال؟

        إن مقولة ( الإنسان الكامل ) توقع الكاتب في نفس ما حاول التهرب منه بـخصوص اسم الجلالة (الله) ، فهي لا تدل -فعلا- إلا على سلسلة لا متناهية من الرغبات والأماني والتطلعات والتشوف نحو (الكمال) دون إدراكه، فيعيش الإنسان معلنا حربا على خالقه، ينازعه فيها صفات وأسماء الكمال.

        فـ (الله عالم) ، تعني أن الإنسان يود أن يكون عالما؛ لكي يصل إلى (أنا عالم) بدل (الله عالم) و ( الله قادر) ، تعني أن الإنسان يود أن يكون قادرا؛ ليصل إلى (أنا قادر) بدل (الله قادر) ... وهكذا مع السمع والبصر والتكلم والإرادة، بل أيضا الوجود والقدم والبقاء ومخالفة الحوادث والقيام بالنفس والواحدية.

        أما مفاتيح هـذا النوع من النقلة التي يستعملها الكاتب حلقات وصل لهذه المنفصلات، ولازمة تتكرر في معظمها، فعبارات من قبيـل: الإنـسان يصـف أغـلى مـا لـديه (الله) بأعز ما لديه (العلم، القدرة، الحياة...) ، ثم (يعيش مغتربا في العالم) بسبب (ظروف اجتماعية) ، فـ (إذا ما تغيرت الظروف) (؟) [ ص: 134 ] و (أصبح الإنسان) و (استرد الإنسان) و (عاد الإنسان) ... إلخ. [12] . فـعبر هـذه الـممرات يـحقق الإنـسـان مـطـالبـه فـي (الكـمال) بـ (استرجاع) ما (أخذه) الله منه.

        لا شك أن العناية بمبحث الإنسان في فكرنا المعاصر أمر مطلوب، لكن الخلاف مع الكاتب هـو على مستوى المرجعية التصورية التي ينطلق منها، والمنهجية العملية التي يتوسل بها... عندما يجعل الإنسان في مقابل الله، ويوظف اللغة كأداة نزاع في هـذه المقابلة؛ عندما ينطلق من كون اللغة الدينية الشرعية قد استنفذت أغراضها، ويخلق تعارضا بينها وبين اللغة المعاصرة.

        مرجعية ومنهجية يحكمها عموما منطق المقابلة والتعارض، بحيث لا يتحقق أحدهما إلا بالتخلي عن الآخر. فالمنطق السليم المعبر عن (أصالة الفكر) حقا -كما يزعم الكاتب- هـو الانطلاق من الأرضية الخصبة التي هـيأتها الأصول نفسها بخصوص مبحث الإنسان، ومظاهر تكريمه، بل والتي خرجت نماذج من الإنسان لم يملك الفكر اللاحق إلا أن يعبر عنها بالمثالية والنموذجية والفرادة... ثم تطويره بعد ذلك بما تتيحه علوم [ ص: 135 ] ومعارف العصر. إلا أن دعوة الكاتب تتجاوز هـذه الأصول، لتستصحب معها -في العمق- ظلال مرجعية أخرى، وضعية تجريبية، وعقلانية مادية، وجهت وسادت نظاما معرفيا آخر.

        إذا أخذنا نموذجا آخر وأخيرا، يظهر لنا بوضوح أكثر اضطراب الكاتب في معالجته لمسائل (اللغة الدينية) . فهو يختار للإسلام -كدين- أسماء بديلة عنه معبرة أكثر منه على مضمونه يقول قبل ذلك بخصوص الدين بأنه: (لا يؤدي وظيفته في الإيصال... نظرا للمعاني العديدة التي ألصقت به خلال تاريخ استعماله.) [13] . (ولما كان لفظ (دين) قاصرا عن أداء المعنى فإن لفظ (أيديولوجيا) أقدر منه على التعبير عن الدين المعني وهو الإسلام.) [14] .

        ما تجدر ملاحظته هـنا أنه إذا كان مبرر التخلي عن لفظ (دين) هـو المعاني العديدة التي حفت به وحرفت دلالته -أو كادت- عن معناها الأصلي، فهل لفظ ( أيديولوجيا ) من المحكمات القطعيات التي لا معاني لها ولا ظلال؟ ثم من أين جاء الكاتب بهذا اللفظ، وهو الذي شرط على نفسه أن تكون عملية التجديد (لغة عربية وليست مستعربة أو معربة عن طريق النقل [ ص: 136 ] الصوتي للغات والألفاظ الأجنبية.) [15] . بل آخذ الكاتب المفكرين (الشوام والمغاربة الذين وقعوا في هـذه الألفاظ المستهجنة بدعوى التحديث) [16] ، وكيف (انفلت) هـذا اللفظ للكاتب وهو يحمل معه ما يحمل من أثقال الدلالات والمعاني الأجنبية، وأضيف إليه ما أضيف في الاستعمال والتداول المحلي.

        أيضا بخصوص لفظ (الإسلام) فهو مشحون بعديد من المعاني كلفظ (دين) ...) [و]... لفظ (التحرر) هـو اللفظ الجديد الذي يعبر عن مضمون الإسلام أكثر من اللفظ القديم. فالذي يسلم لله يتخلص أولا من كل ما يكبل الإنسان من القيود، وهو فعل التحرر الذي يبدأ بالنصف الأول من الشهادة (لا إله) ، فإذا تحرر الإنسان من القيود، فإنه يقوم بالفعل الثاني وهو الإثبات (إلا الله) فيسلم لله. فالإسلام هـو تحرر الشعور الإنساني من كل قيود القهر والطغيان... ولفظ (السلام) أيضا يعبر أكثر عن مضمون (الإسلام) من اللفظ ذاته؛ لأن الإسلام هـو الذي يحقق السلام الداخلي للإنسان بعد تحرره من كل قيود القهر والاستعباد. [17] . [ ص: 137 ]

        واضح أن الكاتب يعبر هـنا بـ (أجزاء) : (التحرر) ، (السلام) ، عن (كل) هـو (الإسلام) ، ومعلوم أن معاني الإسلام لا تنحصر في اللفظين السالفين، بل تتجلى في كل القيم والمبادئ التي جاء بها هـذا الدين، من عدل وشورى وإحسان وأخلاق... وغير ذلك. فكيف يتم الاستغناء عن (كل) ليعبر عنه بأحد أجزائه، ويزعم بأنه قاصر عن أداء المعنى المطلوب، وأنه يمكن لآحاد تلك الأجزاء أن تعبر عن مضمونه بدلا عنه.

        إنه لا يمكن أن يعبر عن معنى الإسلام في شموله واستيعابه للمعاني الربانية والإنسانية إلا الإسلام نفسه، ولهذا كان الدين عند الله الإسلام، وأن من أراد غيره دينا فلن يقبل منه، أما هـذا اللفظ أو ذاك فلا يمكن أن يعبر إلا عن جزء من ذلك الكل. " ولهذا لما سأل قائد الفرس الصحابي الجليل ربعي بن عامر رضي الله عنه : ما الذي جاء بكم؟ -أجاب إجابة حاول فيها أن يستجمع أكبر وأهم مبادئ الدين الجديد (الإسلام) ، واختزلها في التوحيد والعدل والحرية- قال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة " . [ ص: 138 ]

        ما أجمل أن تقرأ للكاتب أن (اللغة هـي الثقافة، ونشر اللغة بألفاظها هـو في نفس الوقت نشر لثقافة، والألفاظ المستعربة دعوة إلى تبني الثقافة الدخيلة وترك الثقافة الأصيلة، وكأن مفاتيح العلوم والفكر والثقافة هـي عند الثقافات الأخرى وليست في ثقافتنا الخاصة... [فـ] المحافظة على الأصالة اللغوية، هـي شرط التعبير عن أصالة الفكر.) [18] .

        لكن ما أبعد الكاتب عن هـذه القناعات، لا في موقفه من اللغة الدينية هـنا، بل في سائر أعماله أيضا. يفهم من كلامه: أن إزاحة اللغة الدينية القديمة التي لم يبق لها ولم تذر أية إيجابية -إذ هـي: لغة إلهية تدور الألفاظ فيها حول الله، لغة دينية قديمة، لغة تاريخية تعبر عن وقائع أكثر من تعبيرها عن فكر، لغة تقنينية تضم الوجود وتضعه في قوالب، لغة صورية مجردة، لغة يرفضها العصر. [19] .

        - هـو إزاحة لثقافة معينة هـي الثقافة الدينية. وأن الدعوة إلى ألفاظ (تجري مجرى النار في الهشيم؛ مثل: الأيديولوجيا، [ ص: 139 ] التقدم، الحركة، التغيير، التحرر، الجماهير، العدالة) [20] ، هـي دعوة إلى ثقافة أخرى متحررة من قيود وظلال الثقافة الأولى. فعن أية ( أصالة فكرية ) يتحدث الكاتب بعد إزاحة اللغة التي هـي وعاء هـذا الفكر الأصيل؟

        أما عن مميزات اللغة الجديدة، فأن تكون: عامة لمخاطبة كافة الأذهان، مفتوحة تقبل التغيير والتبديل لا في مفاهيمها ومعانيها، بل حـتى فـي وجودها بقـاء أو عـدما، عقـلية يـمكن التعامل بهـا في إيصـال الـمعنى، لها ما يقابلها في الحس، إنسانـية لا تعـبر إلا عـن مقـولة إنسـانية، عربـية وليست مستعربة أو معربة. [21] .

        ولا أرى معنى لمناقشة هـذه (المميزات) لهذه (اللغة الجديدة) لا من حيث إمكانها الواقعي مجتمعة، ولا من حيث التزام الكاتب نفسه بها في مشروعه (من العقيدة إلى الثورة) خصوصا.

        وما تقدم هـو نماذج يسيرة يمكن أن تعطي -على الأقل- صورة عن العمل العام. [ ص: 140 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية