الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        الفصل الأول في ضرورة العناية بالمصطلح الحامل للمضمون... تجربة الأمة التاريخية

        المبحث الأول: في المصادر الشرعية

        إن القرآن الكريم وهو يتنزل كان يعطي ألفاظه التي هـي عماد الدين معاني محكمة في العقيدة أو الشريعة إجمالا أو تفصيلا، ولو تتبع الباحث بالاستقراء الكامل مواطن ورود اللفظ الواحد لأمكنه الوقوف على معاني اللفظ الجمة وعلى حقيقته والمراد منه في هـذا الموطن أو ذاك؛ سواء اتحدت المعاني أو اختلفت، ولكان ذلك خير معين لفهم المراد من كلام الله تعالى في كتابه. ولم يقف القرآن عند حد ضبط ألفاظه ومصطلحاته ودلالاتها؛ قطعية وظنية [1] ، بل تعدى ذلك إلى تقويم اللسان في النطق والكلام بانتقاء أحسن الألفاظ وأبلغها في أداء المعنى، فأمر [ ص: 37 ] ألا نجادل أهل الكتاب إلا بالتي هـي أحسن، وأعطى نماذج تطبيقية لذلك،

        نقرأ منها قوله تعالى آمرا نبيه الكريم: ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ها أنتم هـؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي الـمؤمـنين ) (آل عمران:63-68) ، حيث اشتملت الآيات على تصحيح مجموعة من المفاهيم دلت عليها مصطلحات؛ مثل: العبادة، الشرك، العلم، الولاء، الاتباع... في سياق حجاجي إقناعي غير جارح، يقوم على منهجية برهانية عقلية وتاريخية.

        يمنع القرآن الكريم أيضا من استعمال ألفاظ معينة، [ ص: 38 ] ويستبدل غيرها بها، كما نقرأ في قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم ) (البقرة:104) .

        فـ (النهي عن أن يقول المسـلـمون كـلمـة لا ذم فيها ولا سخف لا بد أن يكون لسبب، وقد ذكروا في سبب نزولها (الآية) ، أن المسلمين كانوا إذا ألقى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم الشريعة والقرآن يتطلبون منه الإعادة والتأني في إلقائه حتى يفهموه ويعوه، فكانوا يقولون: راعنا يا رسول الله. أي: لا تتحرج منا وارفق، وكان المنافقون من اليهود يشتمون النبي صلى الله عليه وسلم في خلواتهم سرا، وكان لهم كلمة بالعبرانية تشبه كلمة راعنا بالعربية، ومعناها في العبرانية سب، وقيل معناها: لا سمعت دعاء. فقال بعضهم لبعض: كنا نسب محمدا سرا فأعلنوا به الآن. أو قالوا هـذا وأرادوا به اسم فاعل من رعن إذا اتصف بالروعنة... فكانوا يقولون هـذه الكلمة مع المسلمين ناوين بها السب، فكشفهم الله وأبطل عملهم بنهي المسلمين عن قول هـاته الكلمة حتى ينتهي المنافقون عنها، ويعلموا أن الله أطلع نبيه على سرهم.) [2] [ ص: 39 ]

        يميز القرآن الكريم بين لفظ وآخـر، أو بين مـرتبـة وأخـرى،

        كما في تصحيحه لقول الأعراب: ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) (الحجرات:14) .

        قيل: إنها نزلت في أعراب بني أسد، الذين قالوا آمنا أول ما دخلوا الإسلام، ومنوا على رسـول الله صلى الله عليه وسلم ، قالـوا: يا رسول الله، أسلمنا وقاتلتك العرب ولم نقاتلك. فأراد الله أن يعلمهم حقيقة ما هـو قائم في نفوسهم وهم يقولون هـذا القول، وأنهم دخلوا الإسلام استسلاما، ولم تصل قلوبهم بعد إلى مرتبة الإيمان... فالإيمان تصديق القلب بالله وبرسـوله، الـتصديق الذي لا يرد عليه شك ولا ارتياب، التصديق المطمئن الثابت المتيقن، الذي ينبثق منه الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله. [3] هـم قالوا آمنا حين كانوا في شك لم يتمكن الإيمان منهم، فأنبأهم الله بما في قلوبهم، وأعلمهم أن الإيمان هـو التصديق بالقلب لا مجرد اللسان؛ لقصد أن يخلصوا إيمانهم ويتمكنوا منه،

        كما بينه عقب هـذه الآية بقوله: ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا [ ص: 40 ] وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هـم الصادقون ) (الحجرات:15) ، والاستدراك بحرف: (لكن) في قوله تعالى: ( ولكن قولوا ) لرفع ما يتوهم من قوله: ( لم تؤمنوا ) أنهم جاءوا مضمرين الغـدر بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما قـال: ( ولكن قولوا أسلمنا ) تعليما لهم بالفرق بين الإيمان والإسلام، فإن الإسلام مقره اللسان والأعمال البدنية... وأنه لا يعتد بالإسلام إلا إذا قارنه الإيمان، فلا يغني أحدهما بدون الآخر، فالإيـمان بدون إسلام عناد، والإسلام بدون إيمان نفاق، ويجمعهما طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم [4] . ويؤيد هـذا عموما حديث جبريل في الصحيحين في (كتاب الإيمان) عن الإسلام والإيمان والإحسان.

        والحديث النبوي الشريف لم يخرج عن منهجية القرآن في ضبط معاني ومفاهيم المصطلحات، أو إعطائها مضامين ودلالات جديدة، أو الترغيب والندب إلى استعمال بعضها وكراهة استعمال بعضها الآخر، بل إننا نجد ذلك في السنة أكثر بما هـي [ ص: 41 ] تفصيل وبيان لكتاب الله؛ وقد ذكروا من فصاحة رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنه تكلم بألفاظ اقتضبها لم تسمع من العرب قبله، ولم توجد في متقدم كلامها، كقوله: مات حتف أنفه، وحمي الوطيس، ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين... في ألفاظ عديدة تجري مجرى الأمثال، وقد يدخل في هـذا إحداث الأسماء الشرعية.) [5] وتطالعنا كتب الحديث النبوي الشريف بأبواب وأحاديث فيها دعوة من الرسول صلى الله عليه وسلم للتسمي بأسماء وعدم التسمي بأسماء أخرى، ( فعن أبي وهب الجشمي -وكانت له صحبة- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تسموا بأسماء الأنبياء، وأحب الأسماء إلى الله: عبد الله، وعبد الرحمن. وأصدقهما: حارث، وهمام. وأقبحهما: حرب، ومرة. ) [6] ، ( وعن أسامة بن أخدري أن رجلا يقال له أصرم ، كان في النفر الذي أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال [ ص: 42 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما اسمك؟ قال: أنا أصرم. قال: بل أنت زرعة. ) قال الخطابي : إنما غير اسم الأصرم لما فيه معنى الصرم وهو القطيعة. قال أبو داود : وغير النبي صلى الله عليه وسلم اسم العاص وعزيز وعتلة وشيطان والحكم وغراب وحباب وشهاب... وأرضا تسمى عفرة فسماها خضرة. وغير اسم عاصية، وقال: ( أنت جميلة. ) . [7] وتذكر كتب السيرة أنه أثناء حفر الخندق في غزوة الأحزاب، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعمل في الخندق مع المسلمين، وهم يرفعون أصواتهم بالرجز أثناء العمل، فيشاركهم الترجيع، وكان هـناك من المسلمين اسمه (جعيل) فكره الرسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه، وسماه: عمرا، فراح العاملون في الخندق يغنون جماعة بهذا الرجز:

        سماه من بعد جعيل عمرا وكان للبأس يوما ظهرا [8]



        ونظير هـذا كثير في كتب الحديث والسيرة وتراجم الصحابة، ويدل على أن اختيار وانتقاء الألفاظ الحسنة، هـو شرط ومدخل مهم للدلالة على المعاني والمقاصد الحسنة. وأكبر من ذلك [ ص: 43 ] ما حدده الرسول صلى الله عليه وسلم من معاني الألفاظ ومصطلحات تدخل في منهج الدعوة والتربية الأخلاقية والإيمانية والاجتماعية؛ ( فعن أبي هـريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سائلا من معه من الصحابة: أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هـذا، وقذف هـذا، وأكل مال هـذا، وسفك دم هـذا، وضرب هـذا، فيعطى هـذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حـسناتـه قـبل أن يقـضى ما عليه أخذ من خطاياهم فـطرحـت عليه، ثم طرح في النار. ) [9] .

        فالإفلاس كمصطلح متداول في الأموال والمتاع، يكون متى خسر الإنسان أو ضاع منه ذلك. وإعطاؤه مفهوما آخر غير مفهومه المادي مفهوما معنويا أخلاقيا وتربويا يدل -وإن كان المراد منه [ ص: 44 ] تقريب المعنى للفهم عن طريق التشبيه والتمثيل بما هـو معروف ومتداول- على إمكانية استثمار المصطلح في الاتجاه الإيجابي، وخلق نوع من التوازن بين دلالته الحسية والمعنوية.

        وفي نفس المعنى، ( عن أبي هـريرة أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال: ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب. ) [10] . قال الحافظ بن حجر معلقا: والصرعة -بضم الصاد وفتح الراء- الذي يصرع الناس كثيرا بقوته، والهاء للمبالغة في الصفة. والصرعة -بسكون الراء- بالعكس هـو من يصرعه غيره كثيرا. وذكر رواية عن الإمام أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( الصرعة كل الصرعة -كررها ثلاثا- الذي يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه فيصرع غضبه. ) [11] وعن شداد بن أوس رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال معرفا (الكيس) و (العاجز) : ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هـواها وتمنى على الله. ) [12] وعن [ ص: 45 ] ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال معرفا الكبر: ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا. قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس. ) [13] وفي رواية الإمام أحمد : ( فقال رجل: يا رسول الله، إني ليعجبني أن يكون ثوبي غسيلا، ورأسي دهينا، وشراك نعلي جديدا... أفمن الكبر ذاك يا رسول الله؟ قال: لا، ذاك الجمال، إن الله جميل يحب الجمال، ولكن الكبر من سفه الحق وازدرى الناس. ) [14] وعن ابن مسعود رضي الله عنه ، أنه صلى الله عليه وسلم قال معرفا الحياء: ( استحيوا من الله حق الحياء، قال: قلنا: يا رسول الله، إنا نستحيي والحمد لله. قال: ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلا، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء. ) [15] وقال الزمخشري في حديث (الحياء من الإيمان) : (جعل (أي الحياء) كالبعض منه (أي [ ص: 46 ] الإيمان) لمناسبته له في أنه يمنع من المعاصي كما يمنع الإيمان.) [16] والأمثلة في هـذا كثير.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية