الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        المصطلـح (خيار لغوي وسمة حضارية)

        سعيد شبار

        مقدمة

        ليس الغرض من هـذا الـبحـث إثبـات شـرف اللـغة العربـية، ولا الدفاع عنها أمام خصومها، فاللغة العربية قد شرفت بإنزال آخر الأديان، وإرسال آخر الرسل باللسان العربي، وإنما ينال الشرف من ينتسب إليها وإلى الدين الذي نزل بها، كما أنه لن يفت في عضدها رمي من هـذا الجانب أو طعن من ذاك، فإن القرآن العربي خالد بمختلف وجوه إعجازه، محفوظ مصان، وخلودها من خلوده.

        ويكفي في التدليل التاريخي على ذلك أن القرآن الكريم الكتاب السماوي الوحيد الذي بقي محافظا على لغته الأصل التي نزل بها، بها يتلى الآن كما تلي مذ نزل، وبها يتعبد الناس ربهم كما تعبده الصدر الأول، على خلاف الكتب السماوية الأخرى التي لم تستمر إلا ترجماتها العديدة على اختلاف في اللفظ والمعنى، فضلا عما أصابها من تحريف وتبديل.

        بل إنه قد ذهب طائفة من أهل اللغة في التنقيب عن أصـلها إلى أنها وحي وتوقـيف مـن اللـه تعـالـى، يقول أبو الفتح عثمان ابن جني : (إنني على تقادم الوقت دائم التنقير والبحث عن هـذا [ ص: 33 ] الموضع (أصل اللغة) فأجد الداوعي والخوالج قوية التجاذب لي، مختلفة جهات التغول في فكري؛ وذلك أني إذا تأملت حال هـذه اللغة الشريفة، الكريمة اللطيفة، وجدت فيها من الحكمة والدقة والإرهاف والرقة ما يملك علي جانب الفكر حتى يكاد يطمح بي أمام غلوة السحر، فمن ذلك ما نبه عليه أصحابنا رحمهم الله، ومنه ما حذوته على أمثلتهم، فعرفت بتتابعه وانقياده وبعد مراميه وآماده صحة ما وفقوا لتقديمه منه، ولطف ما أسعدوا به وفرق لهم عنـه، وانـضاف إلـى ذلك وارد الأخـبار المـأثـورة بأنها من عند الله عز وجل ، فقوي في نفسي اعتقاد كونها توقيفا من الله سبحانه وأنها وحي) .





        [1] [ ص: 34 ] الغرض من هـذا البحث إذن هـو محاولة في الفهم والنظر الذي يبذله الإنسان بإزاء هـذه اللغة، والوعي بمقتضياتها المنهجية والمرجعية، ذلك أنه لما كانت هـذه اللغة ألفاظا ومصطلحات تتركب لتدل على مفاهيم، وتحيل على مضامين، إذ (الألفاظ للمعاني أزمة، وعليها أدلة، وإليها موصلة، وعلى المراد منها محصلة.) [2] ، كانت المصطلحات والمفاهيم في سياق الفهم والنظر الذي يبذله الإنسان، وفي سياق الصيرورة التاريخية لهذا الكائن عرضة لتغيرات وتقلبات عديدة، تمليها ظروف وخصوصيات المرحلة التاريخية، مما يجعلها تنأى كثيرا أو قليلا عما أنزلت أو وضعت له أصلا، فيكون ذلك منشأ للخلاف والنزاع والفرقة والتعدد. كما تدل على ذلك التجربة التاريخية للأمة في فرقها الكلامية ومذاهبها الفقهية. وكما يدل على ذلك واقع اللغة المعاصرة؛ استعمالا لمصطلحاتها وتداولا لمفاهيمها في العلوم الإسلامية كما في العلوم الإنسانية، هـذا بعد أن كانت وحدة اللغة من وحدة الدين، وقوتها من قوته، هـي تعبير دقيق عنه، [ ص: 35 ] وهو مضمون حي لها.

        ولما كانت هـذه الأمور من أهم عوامل صحة الأمة وعافيتها، أو مرضها وسقمها، أو قل هـي بمثابة الشريان والنسغ الذي يدفع الدم الزكي الطيب للجسم فيكون غذاء ينتفع به، أو يدفع الدم الخبيث العفن فيكون داء يتضرر منه. كما دلت على ذلك أطوار نمو الأمة وازدهارها، أو ضعفها وانهيارها بسبب نظام فكرها وثقافتها السائد، أو نظام معرفتها العامة، كانت العناية بالمصطلح وبمفهومه أمرا بالغ الخطورة والأهمية، خاصة إذا أضفنا إلى ذلك العامل الخارجي المتمثل في (التسلط المعرفي) الذي تمارسه ثقافة (الآخر) من استبداد وهيمنة، وتوسيع نفوذ مجال لغته المعبرة عن خصائص حضارته وأنماط عيشه وحياته واختياراته. [ ص: 36 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية