الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

العربية تواجه التحديات

الأستاذ الدكتور / طالب عبد الرحمن

الفصل الثالث

اللغة العربية ومواكبة الحضارة

عمد بعضهم إلى توجيه انتقـادات تصف العربية، عموما، بالتخلف وعدم القدرة على مواكبة الحضارة. ويمكن تلخيص تلك الانتقادات بما يأتي [1] :

1- العربية لغة صحراء وسيف وناقة، فكيف تستطيع التعبير عن هـذه العلوم المتطورة المعقدة والمتغيرة تغيرا سريعا؟ أين عالم الصحراء والبداوة من عالم الحاسوب والإنترنيت والأقمار الصناعية؟

2- العربية تصلح للتغزل بالحبيبة، والوقوف على الديار، وتذكر الأيام الخوالي، ولا تصلح للفكر العلمي والوضعي والملموس. فهي لغة أدب وشعر وعواطف جياشة، ومشاعر، لا لغة علم وتقانة وآلة.

3- العربية تخلو من المختصرات التي باتت سمة مهمة من سمات اللغات الأوربية وتوفر على أصحابها الكثير من الوقت في الكتابة والتفاهم. [ ص: 97 ] 4- الدعوة إلى إلغاء جمع التكسير في العربية.

5- العربية فيها المثنى الذي يجب أن تتخلص منه.

6- العربية لا تسمح بالبدء بالساكن، والمفروض أن تلغي هـذا القيد.

7- العربية خالية من تركيب الكلمات. والتركيب سمة من سمات اللغات المتطورة. فضلا عن ذلك، يتيح التركيب إعطاء الكلمات فرصة جديدة للانعتاق من المعاني الضمنية.

قبل أن نناقش هـذه الانتقـادات، لا بد أن نتـناول جملة مبادئ عامة هـي من أوليات الدراسة اللغوية عموما، وعلم اللغة الحديث خصوصا.

ما النحو؟ يمكن أن نعرف النحو تعريفا ميسرا لغرض هـذه الدراسة بأنـه: «الرصد الدقيق لقواعد الاسـتخدام اللغوي». ولنبـدأ بمثال يوضح الموقف:

فإذا كان عندنا باب ينبغي فتحه، فعلينا أن نستخدم مفتاحا. والمفتاح الذي لا يفتح الباب لا فائدة فيه. وقد يكون هـناك أكثر من مفتاح لفتح الباب نفسه، وفي هـذه الحالة يمكن اختيار المفتاح الذي يتسم بقدر أكبر من اليسـر، والسرعة.. إلخ. فإذا تغـير الباب، تغير المفتاح، ولا عكس. بعبارة أخرى، لا يغير الباب كي ينسجم مع المفتاح؛ لأن المفتاح تابع، والباب متبوع. [ ص: 98 ]

فالقاعدة النحوية هـي مفتاح للاستعمال اللغوي، فاللغة سيدة، والقاعدة خادمة، واللغة متبوعة والقاعدة تابعة. فإذا وجدنا أكثر من طريقة أو أسلوب يمكننا من معرفة اللغـة التي أمامنا، اخترنا ما هـو أيسر أو أشمل أو أدق. مثال ذلك، يقرر النحاة أن صيغة منتهى المجموع ممنوعة من الصرف. فلو سألنا: ما صيغة منتهى المجموع؟ لتحصل عندنا أسلوبان؛

الأول: تعداد الأوزان الكثيرة لصيغة منتهى الجموع، مثل: أفاعيل، ومفاعيل.. إلخ،

الثاني: أن يقال: هـو كل جمع تكسير بعد ألفه حرفان، مثل: مساجد، أو ثلاثة أحرف أوسطها ساكن، مثل: مصابيح [2] .

فالقاعدتان تؤديان إلى النتيجة نفسها في تشخيصنا لصيغة منتهى المجموع، ولكن القاعدة الثانية أيسر. وبطبيعة الحال، الباب مفتوح أمام الدارسين للمجيء بقواعد أو ضوابط أيسر من القواعد الموجودة بين أيدينا ولكن بما يضمن احتواءها وشمولها للغة العربية، وعدم مسها باللغة نفسها [3] . [ ص: 99 ]

ولا بد من التنبيه إلى أن هـذا التقعيد لا يقتصر على النحو، والصرف، وإنما يشمل الأصوات والمعنى أيضا. فإذا قلت لصاحبك: قرأت الكتاب الجديد، فإن صاحبك سيفهم المقصود بكلمة «الكتاب» على أنه مجموعة من الأوراق المطبوعة، وله عنوان.. إلخ. «والجديد» عكس القديم، وهكذا. لأن قواعد اللغة تضمنت معنى معينا لكلمة «كتاب» ومعنى معينا آخر لكلمـة «جديد» ومعنى ثالثا لكلمـة «قرأ» وهكذا مما تعارف عليه الناس، وجعل التفاهم بين الناطقين بلغة واحدة ممكنا. وإذا سمع العربي كلمة مثل «جط» حكم عليها بأنها ليست عربية، لأن القاعدة تقول بأن الجيم والطاء لا تجتمعان في كلمة عربية [4] . فالتركيب الصوتي لهذه الكلمة لا تقبله العربية. ونود أن نؤكد، مرة أخرى، أن القاعدة (النحوية، والصرفية، والصوتية، والدلالية) تابعة، واللغة متبوعة، والقاعدة خادمة، واللغة سيدة، والقاعدة مستنبطة لا مخترعة. فالنحوي مصور بالكاميرا، ينقل الواقع، وليس رساما يخترعه ويبتدعه. على أن هـذا لا يعني أن اللغويين كلهم يقدمون دائما صورة صادقة عن الواقع اللغوي. صحيح أن القاعدة النحوية، أو الصرفية، أو الصوتية، أو الدلالية تصور تصويرا أمينا، عادة، المادة المدروسة، ولكن نجد اللغوي [ ص: 100 ] أحيانا يعمل موقفه وتحيزاته فيقرر من القواعد ما لا وجود له في اللغة نفسها. ومن ثم نجد منهجين للتقعيد والدراسة: المنهج الوصفيdescriptive (القائم على التصوير الأمين للغة بجوانبها النحوية والصرفية والصوتية والدلالية) والمنهج المعياريPrescriptive الذي يفرض على اللغة قواعد (نحوية أو صرفية أو صوتية أو دلالية) ليست موجودة فعليا فيها. وقد عرف تاريخ الدرس اللغوي عند الغربيين هـذا المنهج المعياري فوجدنا من «يستورد» قواعد من اللغة اللاتينية ويفرضها على اللغة الإنجليزية فرضا، لاويا بذلك عنق اللغة الإنجليزية ليا كي يتبع المتحدثون بالإنجليزية، والكاتبون بها، تلك القواعد المفروضة، المستوردة.

وكانت حجة أولئك اللغويين الغربيين أن اللغة اللاتينية «أفضل» من اللغة الإنجليزية، وأكثر منطقية. ومثال ذلك القاعدة التي استوردها النحاة الإنجليز من اللغة اللاتينية وفرضوها على اللغة الإنجـليزية، وهي القاعدة التي تقـول:

يجب أن يقال I want you to understand clearly

ولا يجـوز أن يقال: I want you to clearly understand بالفصل بين (to) و understand [5] . [ ص: 101 ]

وقد نجد قاعدة ليست في اللغة نفسها، ولكن اللغوي فرضها فرضا لأن «المنطق» العقلي (لا اللغة) يتطلبها، كمنع الجمع بين نفيين، لا لأن اللغة لا تجمع بين نفيين في الاستعمال، وإنما لأن المنطق العقلي يمنع ذلك، على أساس أن الجمع بين نفيين يؤدي إلى الإيجاب.

وقد دعا الألسنيين إلى تبني المنهج الوصـفي دون المعياري أمور، أهمها أن الألسنية علم يصف فيها الدارس ما يدرسه فعلا، ومن ثم لا يقرر ما يجب على الشيء أن يكون. فهو في هـذا مثله مثل عالم الكيمياء، يصف لنا الأشياء كما هـي، لا كما يجب أن تكون. فضلا عن ذلك، يدفع الألسنيين إلى التمسك بالوصفية نظرتهم إلى اللغة على أنها حقيقة اجتماعية، وعدم تفضيل لغة على أخرى. ولا بد لنا أن نتناول هـذين الأمرين بتفسير موجز.

يردد علماء اللغة مقولة كون اللغة حقيقة اجتماعية. وهذا يعني أن كون اللغة «حقيقة» يدل على وجودها المستقل، وكيانها الذي يمارس على الأفراد نوعا من القوة القاهرة التي يطيعها الفرد ويتصرف وفقها.

فهي موجودة «خارج» الفرد، و «فوق» الفرد وتكون عادة موجودة «قبل» الفرد، وبمعزل عن رغباته.

أما كونها اجتماعية فمعنى ذلك أن من يعطيها الحياة، والوجود، والمعنى، والسيرورة، هـو المجتمع، وليس الفرد. ولتوضيح المسألة نضرب [ ص: 102 ] مثالا من خارج اللغة، وهو علامات المرور. فاللون الأحمر في إشارات المرور يقول لك: قف! ويقول للآخرين المعنى نفسه. وليس من حق زيد أن يفسر الأحمر بمعنى استدر يمينا، ثم يفسره عمرو بأن معناه: استدر شمالا، لأن هـذين التفسيرين، والتفسيرات الأخرى المحتملة، يؤديان إلى انعدام التفاهم ومن ثـم الفوضى والارتباك. ومن ثم يبقى تفسير المجتمع، لا الفرد، هـو المرجع. ومن الطريف أن نشير إلى أن اللغة وإشارات المرور كلتيهما تندرج ضمن السيمولوجيا . ومن هـنا كانت الدلالة منوطة بالمجتمع. وقد تتفق جماعة من الأصدقاء، أو عائلة، على إعطاء معنى خاص لكلمة ما، بحيث لا يعرف أحد -خارج تلك الجماعة أو العائلة- هـذا المعنى. كأن تتفق عائلة على إعطاء معنى الحاسب الآلي لكلمة «صابر»، ولكن ذلك لا يعطي هـذا المعنى الخاص لكلمة «صابر» صفة اللغة إلا إذا أخذ بعدا اجتماعيا لا يقتصر على فرد أو قلة من الأفراد وإنما تبناه المجتمع برمته. والموضوع يقترب من المثل. فقد تطلق أنت أو أنا قولا جميلا بارعا، ولكن المجتمع وحده هـو الذي يقرر فيما إذا كان ذلك مثلا أم لا.

علاوة على المنهج الوصفي، الذي أشرنا إليه، يتبنى علماء اللغة مبدأ عدم تفضيل لغة على أخرى.

يقول أليرتون D. J.Allerton : ينبغي لعالم اللغة أن يتفادى الأحـكام الجمالية، والتقليدية، وتجنب الحـكم على اللغة من خـلال المنطـق وما إلى ذلك [6] . [ ص: 103 ] ويقول دانيالزDaniels : اللغات كلها متسـاوية ومثالية في تلبيتـها لاحتيـاجات أصحابـها وتغيرها للوفاء بتلك الحاجات. [7] .

وقد يبدو هـذا الكـلام مرفوضا عند الكثيرين. فكيف لا نفضل لغة مثل اللغة الإنجليزية على لغة قـوم لا يعرفون كوعهم من بوعـهم، ولا يحسنون حتى القراءة والكتابة؟ أليست الإنجليزية في هـذه الحالة لغة متطورة متقدمة، في حين أن اللغة الأخرى متخلفة؟ لا يمكن أن ننكر أن هـناك مجتمعات متقدمة، ومجتمعات متخلفة، ومجتمعات بين بين. بيد أن هـذا لا يعني أن اللغات يمكن أن تتسم هـي أيضا بالتخلف. يقول عالم اللغة «جون لاينز John Lyons» : «الحقيقة هـي أن كل لغة درست حتى هـذا الوقت قد ثبت بعد دراستها أنها ذات نسق اتصال معقد ومتطور تطورا عاليا، بمعزل عما يبدو لنا من بدائية أو عدم تحضر المجتمعات المستخدمة لها في الجوانب الحضارية الأخرى» [8] . [ ص: 104 ]

بعبارة أخرى، إننا نجد «مجتمعا» متخلفا في أسلوب حياته وتفكيره ونظرته إلى الحياة والإنسان، ولكن «لغة» تلك المجتمعات المتخلفة ليست متخلفة. ولكن المشكلة تبقى، عند غير المتخصصين، تتمثل في المفردات. فاللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية متطورة في مفرداتها التي استوعبت، وستستوعب منتجات العصر الحديث. فالسؤال الذي قد يطرح، واستخدم ضد اللغة العربية هـو: كيف يتسنى للغة مجتمع بدوي - زراعي في مفرداته أن تستوعب منتجات الحضارة الحديثة؟ فلا بد أن تتخلف العربية، والحالة هـذه، عن الركب.

الواقع أن القائل بهذا الرأي لا يعرف عن طبيعة اللغة شيئا. فهو يفترض أن اللغات الأخرى قد ولدت متطورة، ومن ثم لا بد لها أن تتفوق على العربية، بنت الصحراء.

والواقع أن اللغة ملابس مطاطية، لا شكل لها، وإنما تأخذ شكلها من شكل لابسيها. فإذا كانت حضارة الناطقين بها زراعية كثرت فيها الألفاظ الزراعية، وإذا كانت حضارة الناطقين بها من مجتمع بحري نجد اللغة أداة مطواعا لهذا الوضـع البحري، وهكذا. ويعلمنا التاريخ أن اللغة لا تخذل، عادة، أصحابها. صحيح أن اللغة قد تتعرض لظروف قاتلة، بالمعنى الدقيق للكلمة، فقد ينقرض الناطقون بها بسبب وباء أو مرض، وقد يصفون جسديا (كالهنود الحمر مثلا) وقد يحظر على الجماعة اللغوية [ ص: 105 ] استخدام لغتها القومية، وقد يغرقون في حشد سكاني هـائل لأناس متفوقين عليهم حضاريا بما يعرضهم للتشتت والضياع التدريجي للغتهم. هـذه الظروف، وغيرها، تؤدي إلى ما يسمى بموت اللغة. ولكن إذا لم تواجه اللغة ظروفا قاتلة من هـذا النوع، فإنها لا تخذل أصحابها. فهي العربة، وليست الحصان، والنتيجة وليست السبب. وإنما ذكرنا هـذه المبادئ العامة في اللغة؛ لأن من انتقدوا اللغة العربية أبدوا، في كثير من الحالات، جهلا بطبيعة اللغة، فحاولوا أن يأتوا هـم بقواعد ليفرضوها على اللغة، وكأن اللغة هـي ملكهم الشخصي وليست ملك المجتمع، و ينظرون إليها على أنها أداة يشكلونها هـم حسب ذوقهم الشخصي. (وسنشير، فيما بعد في هـذا الفصل، إلى مصادر الإلهام لذوقهم الشخصي هـذا) . أما القول بعجز لغة هـي بنت الصحراء والكثبان الرملية والسيف على التطور ومواجهة هـذا العصر المتفجر بالعلم والمعرفة والمعلومات، فسأضرب مثالا ينقض هـذه الدعوى مستمدا من اللغة اللاتينية (إذ الظاهر أن الأمثلة من اللغات الأخرى تبدو أكثر إقناعا!) . فمن المعروف أن اللاتينية كانت اللغة المشتركة Lingua franca للوسط الثقافي لعموم العالم المسيحي الأوربي، بحيث إن المثقف البريطاني كان يتفاهم مع المثقف الألماني باللغة اللاتينية، ويكتب الاثنان باللغة اللاتينية. وقل هـذا عن بقية العالم المسيحي. فالمؤلفات الفلسفية والدينية وغيرها كانت [ ص: 106 ] كلها باللاتينية. وقد استمر الحال على هـذا النحـو لأكثر من ألف سـنة. وما زالت اللغة اللاتينية إلى يومنا هـذا ذات تأثير، وإن يكن محدودا، فنجدها تدرس في مدارس وجامعات كثيرة وتستخدم في تسمية بعض المخترعات، ونجدها أيضا في بعض المراسـم الدينية وبعض أسمـاء الأشخـاص [9] . هـذا كله واللاتينية لم تكن في بدايتها، وقبل سطوع نجم الإمبراطورية الرومانية إلا لهجة محلية لقرية صغيرة على نهر تايبر [10] Tiber في إيطاليا.

أما العربية، واستيعابها لمجمل الحضارة الإنسانية التي كانت معروفة، من علم وفلسفة وتاريخ.. إلخ، فواضح ولا يحتاج إلى إثبات، ولا نعرف شكوى من قصور العربية في استيعاب جوانب حضارية جديدة.

صحيح أن النظرة الساذجة إلى اللغة، قد توحي بعجز لغة قادمة من الصحراء عن استيعاب علوم الفضاء، والإنترنت، والحاسوب.. إلخ. ولكن التعامل الفعلي مع الواقع الحضاري لا يسير حسب هـذا التصور الساذج. فاللغة أذكى بكثير من هـذا الذي يتخيل اللغة قوالب جاهزة مصنوعة من مادة صلبة لا بد لها أن تدخل، بالدقة، في مفهوم آخر جاهز. لأن الأمر لو كان كذلك لواجهت اللغات كلها صعوبة في مواكبة هـذا التطور الهائل [ ص: 107 ]

والمتسارع في المعرفة. فلم تعرف الحضارة الأوربية -عمليا- شيئا عن علوم الكومبيوتر الحالية قبل قرنين، ولكنها تستوعب هـذه العلوم الآن. والمعروف أن التطور المعرفي يسبق دائما التطور اللغوي، ولكن اللغة تبدي دائما طواعية ومرونة وقدرة لا نظير لها على المواكبة والتطور. ولكي نوضح الأمر نعرض مثالين محسوسين مستمدين من واقعنا اللغوي الحالي.

أول هـذين المثالين هـو الكلمة العربية «برقية». فهذه الكلمة، المنسوبة إلى البرق، تدل في وقتنا الحاضر على رسالة سريعة جدا. فكيف استطاعت هـذه اللغة «المتخلفة» بنت الصحراء البطيئة في حركتها، أن تعبر عن هـذه السرعة الفائقة في نوع من الرسائل؟ الجواب واضح، فالعربية وجدت خيطا مشتركا بين البرق، الذي تعد سرعته بأجزاء الثانية من جهة، والرسالة السريعة من جهة ثانية. فقد عمدت العربية هـنا إلى الاستعارة، جاعلة وجه الشبه سمة يتسم بها الشيء المستحدث مما يميزه من نظيره.

والمثال الثاني هـو كلمة «إسعاف». فقد سميت السيارة هـنا باسم وظيفتها؛ لأنها تؤدي هـذه الوظيفة، وهي «إسعاف» المريض.

ومن ثم لا تعدم اللغة الوسيلة التي تربط بها ما بين ما عندها من خزين من جهة، والمستجدات الحديثة من جهة أخرى. وهناك أساليب أخرى لهذا الربط [11] . ومن ثم لا تعد كثرة الألفاظ العربية، أو المترادفات، [ ص: 108 ]

عبئا على العربية، وإنما العكس هـو الصحيح؛ لأنها خزين يمكن توظيفه للتعبير عن المفاهيم والمخترعات الجديدة [12] .

أما القول بأن العربية تصلح للشعر والتغزل بالحبيبة، وذكر السهاد وسهر الليالي، وليست بقادرة على مواجهة عصر المحسوس والمخترع والمجرد.. إلخ، فالواقع أن هـذا جزء من التفكير النمطي وتصنيف اللغات ضمن ذلك التفكير. وأقصد بالتصنيف النمطي «stereotype» هـذا التقسيم الجاهز، اليسير، السريع، بوضع الأشياء في علب أو صناديق جاهزة. كالقول بأن الفرنسية لغة الدبلوماسية، والإنجليزية لغة الأعمال والتجارة، والألمانية لغة الحرب.. إلخ.

ولاشك أن القارئ سيستصعب فهم هـذا الكلام النمطي حينما يتأمل فيه ويمحصه. فما المقصود، مثلا، بأن الفرنسية لغة الدبلوماسية؟ فهل يقصد بأن إجـراء الدبلوماسية باللغة الفرنسية أفضل من إجرائه بغيرها؟ أم المقصود أن الفرنسية لا تحـسن التعـامل بغير القضـايا الدبلوماسية؟ أم المقصود أن الفرنسية لغة أنيقة تصلح للجو الدبلوماسي الأنيق؟ أم أن المقصود وجود كلمات فرنسية كثيرة في لغات العالم تخص الحقل الدبلوماسي؟ ولا أستطيع أن أحكم على الأولى، ولكن عدم معرفة الكثيرين من الدبلوماسيين باللغة الفرنسية يجعلني أشك في صحة ذلك. [ ص: 109 ]

وبطبيعة الحال من الظلم أن نحكم على الفرنسية بأنها لا تحسن التعامل إلا بالقضايا الدبلوماسية، لأن هـذا يعني أنها لا تحسن التعامل بالقضايا العلمية والفنية.. إلخ. وهذا خطأ. وإذا كان المقصود هـو أناقة اللغة الفرنسية فهذا أمر مفهوم إذا ما ردده الفرنسيون، لأن هـناك مبدأ عاما في اللغة وهو مبدأ الألفة أو التعود. فإذا سمعت لغة غريبة عني كل الغرابة، فقد تبدو لي وأنا أسمعها وكأنها كومة من المسامير يصطدم كل مسمار منها بمسمار آخر محدثا صوتا، ولا فرق بين صوت وآخر، ولكن هـذه «المسامير» نفسها تحظى بجمال لا يضاهى عند الناطق الأصلي بتلك اللغة. ومن ثم يميل ذوق الإنسان إلى لغته الأم، ويفضلها على غيرها. وقد يصل التفضيل إلى اللهجة، فينحاز المتكلم إلى لهجته هـو فيفضلها على غيرها. فقد يرى البريطاني، مثلا، لهجته أجمل من اللهجة الأمريكية مع أن الاثنين يتكلمان الإنجليزية. ومن ثم فالحكم الجمالي على اللغة حكم انطباعي، وليس حكما علميا موضوعيا.

أما كثرة الكلمات الفرنسية في الألفاظ الخاصة بحقل الدبلوماسية فربما [13] يكون ذلك صحيحا بحكم ظروف تاريخية معينة حين كانت اللغة الفرنسية في موقع مساو للغة الإنجليزية وربما متفوق عليها. فالقول بأن [ ص: 110 ]

اللغة العربية تصلح للشعر، والعواطف والتغزل بالحبيبة دون العلم والمعرفة الموضوعية، قد يكون مبنيا على كثرة الشعر عند العرب. ولكننا لو أردنا أن ننظر إلى عدد الصفحات التي كتبت في التاريخ فلربما قادنا ذلك إلى أن العربية تصلح للتاريخ دون غيره. وانظر إلى كتب الفقه والتفسير والحديث تجد ما هـو أكثر من التاريخ، وقد يقودنا هـذا إلى حكم آخر وهكذا.

والواقع أن هـذه الأحكام تنظر إلى اللغة منتجا وسببا بدل أن تنظر إليها منتوجا، ومعلولا. وهل وجود الشعر دليل على أن اللغة لا تستطيع أن تعبر عن ميدان غيره؟ وهل عدمت الإنجليزية شعراء مثل شكسبير وبايرون .. إلخ والألمانية شعراء مثل غوتة وريلكة ... إلخ؟ ألم تعبر العربية عن علوم «القرون الوسطى» كلها، من طب وفلسفة وري.. إلخ؟ فلم تتحكم نظرة جزئية انتقائية انطباعية في رؤية هـؤلاء لأداء اللغات؟ هـل رفضت العربية التكيف مع الواقع الجديد؛ لأنها بطبيعتها رومانسية شعرية عاطفية؟ إن المنتقدين للعربية يحومون في حلقة الاتهامات العامة، الهلامية الخالية من التحديد. وكان بودي أن أرى ما يعزز هـذه الأحكام بالأمثلة الفعلية الملموسة، بتبيان عجز العربية بالوفاء بحاجات المجتمع العربي في مواجهة العصر، وعدم الاكتفاء بتوجيه التهم من غير دليل.

أما الانتقادات الأخرى للعربية فتحتاج إلى ذكر شيء يسير عن علم اللغة التقابلي. [ ص: 111 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية