خاتمة

ربط الخيوط جهدت في الصفحات السابقة أن أناقش جزئيات الآراء والمقترحات التي عرضتها. وكانت تلك المناقشة ضرورية؛ لأن إغفال جزئيات الموضوع ومناقشة كلياته قد يوحي للقارئ بأن المناقشة تفادت ما في المقترحات الأصلية من آراء سديدة وصائبة في الجزئيات، ولجأت إلى الكليات والعموميات لعدم قدرتها على تفنيد التفاصيل.

ولا بد أن يتساءل بعضهم: هـل يستحق كل ما يقال أن يناقش؟ والجواب طبعا بالنفي. ولكن أثبتت التجربة أن تكرار فكرة، من غير مواجهتها برد، يجعلها، بعد فترة، مسلمة لا تقبل النقاش. وهذا جزء من غسل الدماغ.

وقد تسللت بعض تلك الأفكار إلى ذوي الاختصاص، فباتوا يرددونها، مقتنعين بـ «وجاهة» الرأي و «منطقيته». والله يعلم كم مرة يذكر هـذا أو ذاك (باسم علم النفس، أو باسم الفلسفة، أو حتى باسم علم اللغة) أن وجود فصحى وعامية يمكن أن يؤدي إلى أمراض نفسية، ويعيق الفهم، وكيف أن الغرب تخلص من هـذه المشكلة...الخ. وهذه [ ص: 136 ] كلها أكاذيب تتردد على مسامع الناس مثلها مثل الأكاذيب التي نسمعها في الإعلام ثم يظهر أنها فرية. ولأن من الصعب حصر الأكاذيب، فقد كان هـمي لا مناقشة بعضها فحسب، بل تبيان المنطق الذي تستند إليه أيضا، كي يكون ذلك نوعا من الوعي بأكاذيب مماثلة لم نستطع تناولها، أو مازالت قيد التهيئة!

لا بد من الاعتراف بحاجة مجتمعنا إلى تغييرات كثيرة؛ لأن تخلفنا عن الركب مريع. ولكن الظاهر أن هـذه الحاجة إلى التغيير فتحت الباب واسعا أمام ميادين لا نعاني منها. بعبارة أخرى، يمسك هـؤلاء الدهاقنة بقضية بحجم رأس الدبوس ويضعونها تحت المجهر فتظهر بحجم عمارة، ويفهموننا أن هـذه هـي مشكلة المشاكل. يشبه منطق هـؤلاء المنتقدين فلسفة الطالب الكسلان: فهو يذكر ألف سبب لفشله (كره المعلم له، المقعد غير المريح...) ولكنه لا يذكر السبب الحقيقي لفشله.

وهذا يؤدي إلى نتائج وخيمة. فهناك مشكلة مفتعلة، يرافقها انشغال بما لا يفترض أن يشغلنا، والنتيجة الكارثية الأخرى هـي صرف النظر عن المشاكل الحقيقية التي تقصم الظهر وتهدد وجودنا نفسه.

وبطبيعة الحال فإن قسما من هـؤلاء المنظرين يشبهون بطاقات الهاتف المدفوعة الأجر، فهم يدافعون عن رزقهم في هـجومهم هـذا، ولكن بعضهم الآخر يطلق هـذه الأحكام الكاسحة منطلقا من جهل، ويتبع ذلك [ ص: 137 ] أن من يسمع هـذا الرأي يصدقه، وقد تأخذ المسألة عقودا قبل أن ينتقض الرأي. وقد لا يكون صاحب الرأي جاهلا، ولكنه يريد تحقيق نجومية، ولو كان كرسيه مصنوعا من جمجمة العربية. فقد بقي كثير من المعنيين باللغة العربية، وعلى مدى عقود، يرددون رأيا خلاصته أن العربية تنفرد بالإعراب (وهذا التفرد وظف ضدها) ، بالرغم من أن الفكرة من ألفها إلى يائها خطأ.

يستغل هـؤلاء أن الأمة جريح، تنهال عليها الخناجر من كل حدب وصوب، وفي الميادين كلها، ولكنهم لا يفكرون في الأمة، ولكن في أنفسهم هـم. ليس هـذا فحسب، بل إنهم يوهمون قراءهم بأن الصورة «هناك» في الغرب صورة وردية وأن العرب وحدهم موطن المساوئ كلها، وليست اللغة إلا جانبا من تلك المساوئ.

ولأن واقع الحال أنه «لا ضريبة على الكلام»، فيمكن لكل حاطب أن يحطب ليلا فيهرف بما لا يعرف، ولا عقوبة على الرأي المحشو بالأكاذيب، فلم لا يطلق لقلمه العنان، خاصة أن ما سيأتي بعد ذلك هـو الشهرة التي ترضي النرجسية، وهي أهم شيء؟

وغريب حقا أن نجد هـشاشة في الترابط بين الأسباب والنتائج. فيكفي عند هـؤلاء ذكر مسألتين ليقدموا إحداهما على أنها سبب والأخرى على أنها نتيجة، من غير حتى الاحتراس إلى إمكان قلب السحر على [ ص: 138 ] الساحر، فإذا قيل: تمييز العربية بين المذكر والمؤنث دليل على موقف مناهض من المرأة، فمن الممكن أن يقال، بالقدر نفسه من القوة: إن تمييز العربية بين المذكر والمؤنث في اللغة دليل على احترام المرأة.

وهذا كله يقـدم ولا يكـلف أي من هـؤلاء نفسه بتقديم الدليل، أو حتى الإشارة إلى مصدر من باب ذر الرماد في العيون.

إلى أين يقود هـؤلاء سفينتنا؟ إنهم لا يعترضون أحيانا على الفصحى فقط، بل على العامية أيضا. وأود أن أفهم، بإخلاص، إلام يرمي هـؤلاء؟ هـل يريدون شرطة لغوية تمـنع الناس من جمع الأسمـاء جمع تكسـير؟ وما البديل؟ وكيف يتحقق البديل؟ وكيف سوغوا لأنفسهم أن يأمروا الناس بما يجب عليهم أن يقولوه؟ هـل نرمي لغتنا في المزابل ونتبنى لغة أخرى، كي نحظى بعد ذلك بابتسامة من هـؤلاء المنظرين؟ لماذا يتعامون عن عيوب في لغات يعرفونها فيكذبون بتصوير مثل أعلى لا وجود له حتى في رءوسهم؟ لماذا يكذبون على الناس حينمـا يقولـون لهم (تصريحا أو تلميحا) : إن الإنجليزية أو الفرنسية لا لهجات فيها؟ ولا فرق فيهما بين العامية والفصحى؟ لماذا يكذبون على الناس حينما يقولون لهم: إن العربية هـي اللغة الوحيدة المعربة؟ هـل يبلغ جهلهم باللغة إلى هـذا الحد أم هـو التجاهل المفيد؟ إذا كانوا جاهلين فلم يتحدثون عما لا يعرفون، وإذا كانوا عارفين فلماذا يكذبون؟ وإذا تبنى الناس العامية، ثم تغيرت تلك [ ص: 139 ] العامية (كما هـي القاعدة) بعد قرن، أو قرابة ذلك، فهل يدرس الطالب «لغته» العامية واللغة العربية الفصيحة؟ وما الذكاء في هـذا كله؟ أين الحكمة من اختلاق مشاكل لكي نحاول، بعد ذلك، حلها؟

ولكي أوضح للقـارئ الصـورة الحقيقـية لما يجري على الأرض (لا الصورة الملونة بيد بعض الكتاب) ، وكيف أن هـؤلاء المنظرين يوهموننا بوجود مشكلة خطيرة في لغتنا، ألخص له المعلومات عن اللغة الصينية، كي يعرف مدى الخداع الذي نتعرض له بيد أولئك الذين يمسكون بفرشاتين: سوداء لصبغ لغتنا، ووردية لصبغ لغات الآخرين، لكي يقال لنا بعد ذلك: ما أقبح لغتنا وما أروع لغاتهم.

يقول كتاب «لغات العالم» عن اللغة الصينية ما خلاصته (ص209-211) : اللغة الصينية لغة نغمية، مما يعني أنك تنطق المقطع نفسه بنغمات مختلفة (مرتفعة، واطئة...وتصل إلى أربع نغمات) وعندئذ يكتسب المقطع نفسه أربعة معان مختلفة. مثال ذلك كلمة «ما» Ma بالنغمات الأربع ستعني المعاني الأربعة الآتية: 1- أم. 2-حصان. 3- يلعن. 4- قنب.

وهذا يعني أن على الصيني أن ينتبه إلى تنغيم الكلمة كي يفهمها. وفي الصينية ما بين أربعين ألف إلى خمسين ألف حرف. لا يتعلم الطفل منها إلا ألفي حرف حينما يكون في العاشرة، ولكنه يحتاج إلى تعلم آلاف أخرى من الحروف كي يتمكن من قراءة صحيفة أو رواية. لا توجد [ ص: 140 ] طابعة تحوي الحروف كلها، وإنما بعضها، وهذه الأخيرة تحوي خمسة آلاف وأربعمئة حرف. بعض تلك الأحرف في هـذه الطابعة يحتاج إلى ثلاث وثلاثين ضربة لطبعه. اختلاف اللهجات بين متكلمي الصينية يصل إلى حد انعدام التفاهم.

ولأن كتابتهم تصويرية (تصور المعنى المقصود، فكلمة «الشمس»، مثلا، تصور الشمس) فإن النتيجة هـي أن متكلما بلهجة «أ» يفهم معنى الكلمة، ولكنه يلفظها لفظا مختلفا عن لفظ المتكلم بلهجة «ب»، وإن كان هـذا الأخير يفهمها أيضا عند قراءته لها. ومن ثم كان التفاهم بالكتابة، وليس الكلام، هـو الممكن.

كانت الصين ، وحتى نهاية النصف الأول من القرن العشرين، فريسة لكل صاحب مخلب ( بريطانيا ، اليابان ...) . وتحولت في غضون أقل من خمسين سنة إلى عملاق حقيقي. وكما رأينا، هـناك مشاكل حقيقية (وليست خيالات أو أوهاما) تمس لغتها. ولكن ذلك لم يقف عقبة في طريقها. إن هـذه الحقيقة من شأنها أن تكنس كل الوساخات الفكرية، التي لا تملك إلا الضجيج الذي لا يزيد في قيمته على ضجيج أبواق السيارات.. (ولم أشر إلى إحياء اللغة العبرية!) .

لا شك أن تقدم الصين له عوامـله. وربمـا كان من عوامله أن الله لم يرزق الصينيين بـ «المصلحين» الذين رزقنا بهم! [ ص: 141 ]

خاتمة

ربط الخيوط جهدت في الصفحات السابقة أن أناقش جزئيات الآراء والمقترحات التي عرضتها. وكانت تلك المناقشة ضرورية؛ لأن إغفال جزئيات الموضوع ومناقشة كلياته قد يوحي للقارئ بأن المناقشة تفادت ما في المقترحات الأصلية من آراء سديدة وصائبة في الجزئيات، ولجأت إلى الكليات والعموميات لعدم قدرتها على تفنيد التفاصيل.

ولا بد أن يتساءل بعضهم: هـل يستحق كل ما يقال أن يُناقَش؟ والجواب طبعا بالنفي. ولكن أثبتت التجربة أن تكرار فكرة، من غير مواجهتها بردٍّ، يجعلها، بعد فترة، مُسلَّمة لا تقبل النقاش. وهذا جزء من غسل الدماغ.

وقد تسللت بعض تلك الأفكار إلى ذوي الاختصاص، فباتوا يرددونها، مقتنعين بـ «وجاهة» الرأي و «منطقيته». والله يعلم كم مرة يَذكُرُ هـذا أو ذاك (باسم علم النفس، أو باسم الفلسفة، أو حتى باسم علم اللغة) أن وجود فصحى وعامية يمكن أن يؤدي إلى أمراض نفسية، ويعيق الفهم، وكيف أنّ الغرب تخلص من هـذه المشكلة...الخ. وهذه [ ص: 136 ] كلها أكاذيب تتردد على مسامع الناس مثلها مثل الأكاذيب التي نسمعها في الإعلام ثم يظهر أنها فِرية. ولأن من الصعب حصر الأكاذيب، فقد كان هـمّي لا مناقشة بعضها فحسب، بل تبيان المنطق الذي تستند إليه أيضا، كي يكون ذلك نوعا من الوعي بأكاذيب مماثلة لم نستطع تناولها، أو مازالت قيد التهيئة!

لا بد من الاعتراف بحاجة مجتمعنا إلى تغييرات كثيرة؛ لأنَّ تخلفنا عن الركب مريع. ولكن الظاهر أن هـذه الحاجة إلى التغيير فتحت الباب واسعا أمام ميادين لا نعاني منها. بعبارة أخرى، يمسك هـؤلاء الدهاقنة بقضية بحجم رأس الدبوس ويضعونها تحت المجهر فتظهر بحجم عمارة، ويفهموننا أن هـذه هـي مشكلة المشاكل. يشبه منطق هـؤلاء المنتقدين فلسفة الطالب الكسلان: فهو يذكر ألف سبب لفشله (كره المعلم له، المقعد غير المريح...) ولكنه لا يذكر السبب الحقيقي لفشله.

وهذا يؤدي إلى نتائج وخيمة. فهناك مشكلة مفتعلة، يرافقها انشغال بما لا يفترض أن يشغلنا، والنتيجة الكارثية الأخرى هـي صرف النظر عن المشاكل الحقيقية التي تقصم الظهر وتهدد وجودنا نفسه.

وبطبيعة الحال فإن قسما من هـؤلاء المنظِّرين يشبهون بطاقات الهاتف المدفوعة الأجر، فهم يدافعون عن رزقهم في هـجومهم هـذا، ولكن بعضهم الآخر يطلق هـذه الأحكام الكاسحة منطلقا من جهل، ويتبع ذلك [ ص: 137 ] أن مَنْ يسمع هـذا الرأي يصدِّقُهُ، وقد تأخذ المسألة عقودا قبل أن ينتقض الرأي. وقد لا يكون صاحب الرأي جاهلا، ولكنه يريد تحقيق نجومية، ولو كان كرسيُّه مصنوعا من جمجمة العربية. فقد بقي كثير من المعنيين باللغة العربية، وعلى مدى عقود، يرددون رأيا خلاصته أنَّ العربية تنفرد بالإعراب (وهذا التفرد وُظِّف ضدها) ، بالرغم من أن الفكرة من ألفها إلى يائها خطأ.

يستغل هـؤلاء أن الأمة جريح، تنهال عليها الخناجر من كل حدب وصوب، وفي الميادين كلها، ولكنهم لا يفكرون في الأمة، ولكن في أنفسهم هـم. ليس هـذا فحسب، بل إنهم يوهمون قراءهم بأن الصورة «هناك» في الغرب صورة وردية وأن العرب وحدهم موطن المساوئ كلها، وليست اللغة إلا جانبا من تلك المساوئ.

ولأن واقع الحال أنه «لا ضريبة على الكلام»، فيمكن لكل حاطب أن يحطب ليلا فيهرف بما لا يعرف، ولا عقوبة على الرأي المحشو بالأكاذيب، فلِمَ لا يطلق لقلمه العنان، خاصة أن ما سيأتي بعد ذلك هـو الشهرة التي ترضي النرجسية، وهي أهم شيء؟

وغريب حقا أن نجد هـشاشةً في الترابط بين الأسباب والنتائج. فيكفي عند هـؤلاء ذكر مسألتين ليقدموا إحداهما على أنها سبب والأخرى على أنها نتيجة، من غير حتى الاحتراس إلى إمكان قلب السحر على [ ص: 138 ] الساحر، فإذا قيل: تمييز العربية بين المذكر والمؤنث دليل على موقف مناهض من المرأة، فمن الممكن أن يقال، بالقدر نفسه من القوة: إن تمييز العربية بين المذكر والمؤنث في اللغة دليل على احترام المرأة.

وهذا كله يقـدَّم ولا يكـلِّف أيٌّ من هـؤلاء نفسه بتقديم الدليل، أو حتى الإشارة إلى مصدر من باب ذر الرماد في العيون.

إلى أين يقود هـؤلاء سفينتَنا؟ إنهم لا يعترضون أحيانا على الفصحى فقط، بل على العامية أيضا. وأود أن أفهم، بإخلاص، إلامَ يرمي هـؤلاء؟ هـل يريدون شرطة لغوية تمـنع الناس من جمع الأسمـاء جمع تكسـير؟ وما البديل؟ وكيف يتحقق البديل؟ وكيف سوغوا لأنفسهم أن يأمروا الناس بما يجب عليهم أن يقولوه؟ هـل نرمي لغتنا في المزابل ونتبنَّى لغة أخرى، كي نحظى بعد ذلك بابتسامة من هـؤلاء المنظِّرين؟ لماذا يتعامون عن عيوب في لغات يعرفونها فيكذبون بتصوير مثل أعلى لا وجود له حتى في رءوسهم؟ لماذا يكذبون على الناس حينمـا يقولـون لهم (تصريحا أو تلميحا) : إن الإنجليزية أو الفرنسية لا لهجات فيها؟ ولا فرق فيهما بين العامية والفصحى؟ لماذا يكذبون على الناس حينما يقولون لهم: إن العربية هـي اللغة الوحيدة المعربة؟ هـل يبلغ جهلهم باللغة إلى هـذا الحد أم هـو التجاهل المفيد؟ إذا كانوا جاهلين فلمَ يتحدثون عما لا يعرفون، وإذا كانوا عارفين فلماذا يكذبون؟ وإذا تبنَّى الناس العامية، ثم تغيَّرت تلك [ ص: 139 ] العامية (كما هـي القاعدة) بعد قرن، أو قرابة ذلك، فهل يدرس الطالب «لغته» العامية واللغة العربية الفصيحة؟ وما الذكاء في هـذا كله؟ أين الحكمة من اختلاق مشاكل لكي نحاول، بعد ذلك، حلَّها؟

ولكي أوضح للقـارئ الصـورة الحقيقـية لما يجري على الأرض (لا الصورة الملوَّنة بيد بعض الكتَّاب) ، وكيف أن هـؤلاء المنظِّرين يوهموننا بوجود مشكلة خطيرة في لغتنا، ألخِّص له المعلومات عن اللغة الصينية، كي يعرف مدى الخداع الذي نتعرض له بيد أولئك الذين يمسكون بفرشاتين: سوداء لصبغ لغتنا، ووردية لصبغ لغات الآخرين، لكي يقال لنا بعد ذلك: ما أقبح لغتنا وما أروع لغاتهم.

يقول كتاب «لغات العالم» عن اللغة الصينية ما خلاصته (ص209-211) : اللغة الصينية لغة نَغَميّة، مما يعني أنك تنطق المقطع نفسه بنغمات مختلفة (مرتفعة، واطئة...وتصل إلى أربع نغمات) وعندئذ يكتسب المقطع نفسه أربعة معانٍ مختلفة. مثال ذلك كلمة «ما» Ma بالنغمات الأربع ستعني المعاني الأربعة الآتية: 1- أُمّ. 2-حصان. 3- يلعن. 4- قنّب.

وهذا يعني أن على الصيني أن ينتبه إلى تنغيم الكلمة كي يفهمها. وفي الصينية ما بين أربعين ألف إلى خمسين ألف حرف. لا يتعلم الطفل منها إلا ألفَيْ حرف حينما يكون في العاشرة، ولكنه يحتاج إلى تعلم آلاف أخرى من الحروف كي يتمكن من قراءة صحيفة أو رواية. لا توجد [ ص: 140 ] طابعة تحوي الحروف كلها، وإنما بعضها، وهذه الأخيرة تحوي خمسة آلاف وأربعمئة حرف. بعض تلك الأحرف في هـذه الطابعة يحتاج إلى ثلاث وثلاثين ضربة لطبعه. اختلاف اللهجات بين متكلمي الصينية يصل إلى حد انعدام التفاهم.

ولأن كتابتهم تصويرية (تصوِّر المعنى المقصود، فكلمة «الشمس»، مثلا، تصوِّر الشمس) فإن النتيجة هـي أن متكلما بلهجة «أ» يفهم معنى الكلمة، ولكنه يلفظها لفظا مختلفا عن لفظ المتكلم بلهجة «ب»، وإن كان هـذا الأخير يفهمها أيضا عند قراءته لها. ومن ثم كان التفاهم بالكتابة، وليس الكلام، هـو الممكن.

كانت الصين ، وحتى نهاية النصف الأول من القرن العشرين، فريسة لكل صاحب مخلب ( بريطانيا ، اليابان ...) . وتحولت في غضون أقل من خمسين سنة إلى عملاق حقيقي. وكما رأينا، هـناك مشاكل حقيقية (وليست خيالات أو أوهاما) تمسّ لغتها. ولكن ذلك لم يقف عقبة في طريقها. إن هـذه الحقيقة من شأنها أن تكنس كل الوساخات الفكرية، التي لا تملك إلا الضجيج الذي لا يزيد في قيمته على ضجيج أبواق السيارات.. (ولم أشر إلى إحياء اللغة العبرية!) .

لا شك أن تقدم الصين له عوامـله. وربمـا كان من عوامله أن الله لم يرزق الصينيين بـ «المُصْلِحين» الذين رُزِقنا بهم! [ ص: 141 ]