الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الفصل الأول

العربية ونفسية العربي

أولا: مدخل

طرح موضوع العلاقة بين اللغة والفكر منذ مدة طويلة. وقد تعارف الناس على الفكرة القائلة: بأن اللغة هـي العربة، والفكر هـو الحصان، فاللغة تابعة، مكيـفة حسب العوامل التي يريدها الفكر. ومن ثـم إذا كان أصحـاب اللغة يعنون بأمر من الأمور (الزراعة، العلاقات الاجتماعية....) وجدنا اللغة تمثل هـذا الاهتمام. ومن هـنا القول الشائع: اللغة مرآة للواقع، لأنها تمثل الواقع.

غير أن هـذه النظرة لم تعدم من يعارضها، معطيا اللغة دورا فاعلا في تشكيل الفكر نفسه. فاللغة على هـذا الرأي بمثابة النظارات التي نرى العالم من خلالها. فلو حوت لغة ما كلمات دالة على أربعة ألوان فقط فإن من شأن أهل تلك اللغة أن يروا أربعة ألوان فقط. فاللغة، حسب هـذا الرأي، هـي التي تخطط أو ترسم لناطقيها خريطة الواقع.

فاللغة في معانيها وتراكيبها النحوية والصرفية، وفقا لهذا الرأي، تحتم علينا رؤية معينة للواقع وربما طريقه تنظيم الثقافة الناطقة بتلك اللغة، ولذلك سمي هـذا الرأي بالحتمية اللغوية Linguistic determinism. [ ص: 29 ]

ولأن اللغات مختلفة ومتشعبة في اختلافاتها، وكانت كل لغة (وفقا للرأي السالف ذكره) تفرض على ناطقيها رؤية مختلفة للعالم عن الناطقين بلغات أخرى، كانت رؤية العالم نسبية، تتوقف على اللغة التي يتكلمها الشعب، ولذلك يسمى هـذا الرأي أيضا بالنسبية اللغوية relativity Linguistic. فأذهاننا هـي التي تنظم ما يأتينا من الخارج، وأذهاننا محكومة بالمفاهيم. وهذه الأخيرة نتاج اللغة التي نتكلمها.

ويقول كريستال عن هـذه الفرضية في صيغتها المتطرفة: «لا يحتمل أن نجد لها نصيرا الآن» [1] .

وربما أمكن توضيح هـذه الفكرة أكثر في المثال الآتي: حينما أخاطب شخصا أو (أشخاصا) ، فبوصفي عربيا تجبرني الضمائر التي استخدمها في مخاطبة الآخر على الانتباه إلى جنسه (ذكر، أم أنثى) وعدده (واحد، اثنين، ثلاثة....) ومن ثم يتقرر الضمير المناسب، فأقول للشخص: أنت مجدة (واحدة، مؤنثة) أو أنتم مجدون (جمع مذكر) . فاللغة العربية هـنا أجبرتني على الانتباه إلى جنس المخاطب، وعدده، وعلي أيضا أن أنتبه في [ ص: 30 ]

حالة الحديث عن الغائب (هو، هـي، هـما، هـم، هـن...) والمتكلم (مفرد: أنا، أم جمع: نحن......) إلى الجنس والعدد وهكذا. ولكن انتباه العربي حسب هـذه النظرية، سيكون أقل من انتباه الفرنسي إلى المسافة الاجتماعية بين المتحدث بالفرنسية ومخاطبه. فإذا كانت المسافة قليلة (ابنك، صديقك) فتخاطبه بـ «tu»، ولكن إذا خاطبت شخصا بينك وبينه مسافة اجتماعية كبيرة (رئيسك في العمل، غريب...) فعليك أن تستخدم «vous». ومن ثم تفرض عليك اللغة الفرنسية أن تقرر مدى المسـافة الاجتمـاعية بينك وبين الشخص الذي تخاطبه. فعلى هـذا، تجبر اللغة صاحبها على أن ينظر إلى زوايا معينة في الحدث قد لا ينظر إليها صاحب لغة أخرى: كعناية لغة بالزمن وعناية لغة أخرى بمصدر الخبر، وهكذا.

وقد وجهت إلى هـذه الفرضية انتقادات كثيرة، أهمها :

1- أن الصم والبكم يفكرون من غير لغة. وكذلك المخترعون والمبتكرون يفكرون في أشياء سابقة على اللغة، ومن ثم لا يعتمد الفكر على اللغة دوما.

2- لا يحتاج سماع الموسيقى أو تذكر شكل شخص، أو شم رائحة معينة إلى اللغة. [ ص: 31 ]

3- أن اللغة عامل واحد من عوامل عدة كثيرة تفعل فعلها في تشكيل الفكر، مثل الظروف الاقتصادية والجغرافية والتاريخية...إلخ. والعامل اللغوي ليس هـو العامل الأقوى.

4- أن عدم وجود كلمة في لغـة ما لا يعني أن أصحاب تلك اللغة لا يمتلكون المفهوم، أو أنـهم لن يروا أو يدركوا ما تفتقد إليه لغتهم. فنحن نميز الكثير من الألوان التي لا نعرف أسماءها أو لا نعطي لها أسماء منفصـلة [2] . وقد أثبتت التجربة أن الإدراك الحسـي للألـوان، مثلا، لا يتوقف عند رؤية ألوان لا وجود لها في لغة الشخص.

5- أن وجود تضخم في ألفاظ موضوع معين (الجمل مثلا في العربية) سببه كثرة الجمال عند العرب، ولم تكثر الجمال عند العرب بسبب كثرة الألفاظ الدالة على الجمل.

6- بالرغم من إمكان رصد الفروق في اللغات فأن من الصعب الوصول إلى حكم عن عقل الناطقين باللغات المدروسة، مستخدمين اللغة وسيلة. ومثال ذلك الجملتان الآتيتان: [ ص: 32 ]

Nixon worKed in the White House.

Gerald Ford has worKed in the White House.

فنحن نترجم الجمـلتين إلى " عمل في البيت الأبيض " في الحالتين، في الوقت الذي تدل فيه الجمـلة الإنجليزية الأولى على أن نيكسون متوفى، في حين أن الجمـلة الثانية تدل على أن جيرالد فورد مازال حيا، والعربية لم تفرق بين المعنيين. ولكن علام نستدل من هـذا الفرق بين اللغتين فيما يخص عقل الشعبين العربي والإنجليزي؟ وكيف يتسنى لنا أن نثبت أن اللغة هـي السبب في هـذا الفرق بين العقلين، إذا ما قررنا أن هـناك فرقا بين العقلين؟

7- لو صح هـذا الرأي لما غـدت الترجمة ممكنة، مادامت الهـوة بين اللغـات بهذه السعـة الثقافية والفكرية. غير أن الترجمة ممكنة وموجودة.

وواضح من النقطة الخامسة أن اللغة تستجيب لاهتمام الناطقين بها. فإذا تغير الاهتمام تركت اللغة الاهتمام القديم وحولت انتباهها إلى الاهتمام الجديد. وهكذا تجد العربية نفسها تخلت عن ألفاظ كثيرة تخص الجمل والسيف لسبب بسيط هـو أن العرب تركوا الصحراء والجمل والسيف. أما النقطة السادسة فسوف نقف عندها وقفة فيها بعض التوسع في مكان آخر من هـذا الفصل. [ ص: 33 ]

علاوة على ما سلف من مآخذ، يمكن لنا أن نشير إلى ما يأتي:

1- إن هـذه النظرية تؤدي، من طرف خفي، إلى تاريخيةhistoricism جديدة، يتحكم فيها شيء سابق، وهو هـنا اللغة، في مصير الإنسان. ذلك أن عناصر معينة في اللغة –النحو، والصرف، والأصوات– تتسم بقدر كبير من الثبات، ومن ثم فإن هـذا الحكم (الذي لا بد أن ينتهي لصالح اللغات الأوروبية!) سيعني أن عقلية الشعوب باقية على حالها. وهذا خطأ، بدليل نهوض أمم في غضون عقود ( الهند ، الصين ، ماليزيا ..) ولم تغير لغاتها.

2- تبنت بعض الشعوب المتخلفة لغة الدول المتقدمة التي استعمرتها (الإنجليزية، الفرنسية..) ولكننا لم نجد تغيرا في تفكيرها، فقد بقيت القبلية، والجهل... إلخ.

3- نجد أصحاب لغات من عائلة لغوية واحدة، ولكنهم مختلفون حضاريا اختلافا كبيرا ( أفغانستان – الدول الأوروبية) مع أن الطرفين يتكلمان لغة هـندية أوروبية. من ناحية أخرى نجد تقاربا حضاريا بين بلد، مثل فنلندا ، وأوروبا بالرغم من الاختلاف اللغوي.

4- قد يقيم الباحث موازنة بين لغتين مستندا إلى معلومات قاصرة عن اللغتين، أو إحداهما. مثال ذلك، أن الشائع أن في العربية ثلاثة أزمنة: الماضي والحاضر والمستقبل. وقد يبني الباحث على أساس هـذه المعلومات عمارة من النظريات عن عدم احترام العرب للزمن، وعدم التزامهم [ ص: 34 ] بالمواعيد ... إلخ من غير معرفة متمكنة بالعربية. فالعربية، مثلا، تفرق في الماضي بين صيغ متعددة، منها:

- حضر زيد.

- قد حضر زيد.

- كان قد حضر زيد.

- لما يحضر زيد.

- كان زيد يحضر.

فهذه التنويعات في الماضي لا يمكن تلخيصها بأنها «ماض» فقط؛ لأن «لما يحضر زيد» بمثابة جسر يمتد من الماضي إلى زمن التكلم، في حين أن جملة «كان قد حضر زيد» موغلة في المضي، وهكذا.

5- يوحي كلام موظفي هـذه الفرضية أنهم ينطلقون من أساس علمي مستمد من معطيات علم النفس. ولا بد من الإقرار بأن هـناك جملة اعتراضات في هـذا الخصوص، لا يتسع المجال لغير الإشارة السريعة إل بعضها:

أ- إن المكانة العلمية لعلم النفس لما تتوطد بمستوى استقرار كثير من المعطيات العلمية في ميادين مثل الفيزياء والكيمياء.

ب- هـناك اعتراضات فلسفية وميدانية على مدى قدرة علم النفس على الجزم والقطع بالحكم. ففيلسوف العلم «كارل بوبر» ينظر إلى [ ص: 35 ] التحليل النفسي، مثلا، على أنه من أشباه العلوم؛ لأن منطلقاته القائمة على مفاهيم مثل اللاشعور، والأنا العليا... (وهي عماد التحليل النفسي عند فرويد وأصحابه، ويكاد كل شخص يعرفها وقد ينظر إليها على أنها مسلمات) غير قابلة للتفنيد. بعبارة أخرى: لا نستطيع التحقق من وجود أو عدم وجود هـذه المفاهيم [3] . وهذه المفاهيم نفسها، لا تعدو أن تكون مفاهيم وهمية عند السلوكيين وعلماء نفس آخرين [4] . فحينما نقول: إن الماء يغلي بدرجة حرارة 100، تحت ظروف معينة للضغط الجوي، فإننا نستخدم مفاهيم واضحة يمكن التحقق منها (ماء، غليان،...) بعكس اللاشعور...إلخ.

ت- من جهة أخرى، يقرر كتاب «تفسير السلوك الإنساني» الذي نشر قبل أكثر من خمسين سنة، أن من الصعب صعوبة بالغة إثبات العلاقة السببية بين ظواهر نفسية بسيطة مثل الخمول والكآبة [5] . ثم يأتي كتاب [ ص: 36 ]

آخر في علم النفس نشر قبل سنوات قليلة ليؤكد، مرة أخرى، الصعوبة نفسها، ومنبها إلى حداثة علم النفس بوصفه علما [6] .

ث- والمسـألة الأخرى هـي الاطـراد والانتظـام. بعبارة أخرى: لو توفرت الظروف نفسها فستتكرر التجربة آلاف المرات، في الماضي والحاضر والمستقبل. فإذا وجـدنا شذوذا، فإن الشذوذ نفسه محكوم بقاعدة علمية تنتظمه. كأن يقال: لقد غلى الماء بدرجة أقل؛ لأن الضغط الجوي هـنا أقل. وهذه المقـولة الأخيرة هـي أيضا قانون. إن ما يحدث أحيانا عند بعض من مفكرينا، كما سنرى في هـذا الكتاب، أنهم يصممون ضوابط خاصة بنا من جهة، مستخدمين، من جهة أخرى، مفاهيم تحتاج هـي نفسها إلى الكثير من التوضيح، كأن يقال لنا: اللغة العربية تذكر وتؤنث، ولذلك لا يحـترم العرب المـرأة، في حين أن لغة «س» لا تؤنث ولا تذكر؛ لأن شعبها يحترم المرأة (من غير أن يكلف الباحث نفسه بإثبات العلاقة بين التذكير والتأنيث في اللغة، والموقف من المرأة، والمقصود بمفهوم احترام المرأة) . فإذا جيء بما ينقض هـذا الكلام من لغات أخرى، بدأ التلوي، والتبرير، والقول بأن هـذه حالة خاصة، وتلك قضية تختلف. [ ص: 37 ]

فإذا وضعنا هـذه الأمور نصب أعيننا، أي: الموقف من علم النفس ومعلوماته، وتهافت المحاكمة بسبب هـشاشة الرابط أحيانا، وعدم وضوح المفاهيم، وكثرة الشذوذ غير المفسر، أدركنا مدى استسهال بعضهم إصدار الأحكام حينما يمسك بفرشاة بلون واحد كي يصبغ بها ملايين الناس، فيصفهم بهذه الصفة أو تلك. كأن يقول: في لغة هـذا الشعب تلك الخاصية، وهذه الخاصية في لغته تسبب له نتيجة (أو نتائج) نفسية معينة. بالرغم من هـذه المآخذ، فقد تلقف بعضهم هـذه الفرضية (التي لم ترق إلى مستوى النظرية) وعمل على توظيفها، كما هـو متوقع، للطعن في العربية. وسنتناول اثنين مثلا توظيف هـذه الفرضية فيما يخص العربية، هـما الدكتور نصر حامد أبو زيد ، وآخر أمريكي من أصل عربي هـو «ي. شوبي» .

التالي السابق


الخدمات العلمية