الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (9) قوله تعالى: يخادعون الله : هذه الجملة الفعلية يحتمل أن تكون مستأنفة جوابا لسؤال مقدر، وهو: ما بالهم قالوا آمنا وما هم بمؤمنين؟ فقيل: يخادعون الله، ويحتمل أن تكون بدلا من الجملة الواقعة صلة لـ"من" وهي "يقول"، ويكون هذا من بدل الاشتمال؛ لأن قولهم كذا مشتمل على الخداع فهو نظير قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      172 - إن علي الله أن تبايعا تؤخذ كرها أو تجيء طائعا



                                                                                                                                                                                                                                      وقول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      173 - متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا     تجد حطبا جزلا ونارا تأججا



                                                                                                                                                                                                                                      فـ "تؤخذ" بدل اشتمال من "تبايع" وكذا "تلمم" بدل من "تأتنا"، وعلى هذين القولين فلا محل لهذه الجملة من الإعراب.

                                                                                                                                                                                                                                      والجمل التي لا محل لها من الإعراب أربع لا تزيد على ذلك - وإن توهم بعضهم ذلك - وهي: المبتدأ والصلة والمعترضة والمفسرة، وسيأتي تفصيلها في مواضعها.

                                                                                                                                                                                                                                      ويحتمل أن تكون هذه الجملة حالا من الضمير المستكن في "يقول" تقديره: ومن الناس من يقول حال كونهم مخادعين.

                                                                                                                                                                                                                                      وأجاز أبو البقاء أن تكون حالا من الضمير المستكن في "بمؤمنين" والعامل فيها اسم الفاعل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد رد عليه بعضهم [ ص: 125 ] بما معناه: أن هذه الآية الكريمة نظير: ما زيد أقبل ضاحكا، قال: وللعرب في مثل هذا التركيب طريقان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: نفي القيد وحده وإثبات أصل الفعل، وهذا هو الأكثر، والمعنى أن الإقبال ثابت والضحك منتف، وهذا المعنى لا يتصور إرادته في الآية، أعني نفي الخداع، وثبوت الإيمان.

                                                                                                                                                                                                                                      الطريق الثاني: أن ينتفي القيد فينتفي العامل فيه فكأنه قيل في المثال السابق: لم يقبل ولم يضحك، وهذا المعنى - أيضا - غير مراد بالآية الكريمة قطعا، أعني نفي الإيمان والخداع معا، بل المعنى على نفي الإيمان وثبوت الخداع، ففسد جعلها حالا من الضمير في "بمؤمنين".

                                                                                                                                                                                                                                      والعجب من أبي البقاء كيف استشعر هذا الإشكال فمنع من جعل هذه الجملة في محل الجر صفة لـ(مؤمنين)؟ قال: "لأن ذلك يوجب نفي خداعهم، والمعنى على إثبات الخداع"، ثم جعلها حالا من ضمير "مؤمنين" ولا فرق بين الحال والصفة في هذا.

                                                                                                                                                                                                                                      والخداع أصله الإخفاء، ومنه الأخدعان: عرقان مستبطنان في العنق، ومنه مخدع البيت، فمعنى خادع أي: موهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه، وقيل: هو الفساد، قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      174 - أبيض اللون لذيذ طعمه     طيب الريق إذا الريق خدع



                                                                                                                                                                                                                                      أي: فسد.

                                                                                                                                                                                                                                      والمصدر الخدع بكسر الخاء، ومثله: الخديعة.

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى (يخادعون الله) أي من حيث الصورة لا من حيث المعنى، وقيل: لعدم عرفانهم بالله تعالى وصفاته ظنوه ممن يخادع.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو القاسم الزمخشري : إن اسم الله تعالى مقحم، والمعنى: يخادعون الذين آمنوا، ويكون من باب [ ص: 126 ] "أعجبني زيد وكرمه".

                                                                                                                                                                                                                                      المعنى: أعجبني كرم زيد، وإنما ذكر "زيد" توطئة لذكر كرمه، وجعل ذلك نظير قوله تعالى: والله ورسوله أحق أن يرضوه إن الذين يؤذون الله ورسوله .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا منه غير مرض؛ لأنه إذا صح نسبة مخادعتهم إلى الله تعالى بالأوجه المتقدمة فلا ضرورة تدعو إلى ادعاء زيادة اسم الله تعالى، وأما "أعجبني زيد وكرمه" فإن الإعجاب أسند إلى زيد بجملته، ثم عطف عليه بعض صفاته تمييزا لهذه الصفة من بين سائر الصفات للشرف، فصار من حيث المعنى نظيرا لقوله تعالى: وملائكته ورسله وجبريل وميكال .

                                                                                                                                                                                                                                      وفاعل له معان خمسة: المشاركة المعنوية نحو: "ضارب زيد عمرا" وموافقة المجرد نحو: "جاوزت زيدا" أي جزته، وموافقة أفعل متعديا نحو: "باعدت زيدا وأبعدته"، والإغناء عن أفعل نحو: "واريت الشيء"، وعن المجرد نحو: سافرت وقاسيت وعاقبت، والآية فيها فاعل يحتمل المعنيين الأولين.

                                                                                                                                                                                                                                      أما المشاركة فالمخادعة منهم لله تعالى تقدم معناها، ومخادعة الله إياهم من حيث إنه أجرى عليهم أحكام المسلمين في الدنيا، ومخادعة المؤمنين لهم كونهم امتثلوا أمر الله تعالى فيهم، وأما كونه بمعنى المجرد فيبينه قراءة ابن مسعود وأبي حيوة: "يخدعون".

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 127 ] وقرأ أبو عمرو، والحرميان: "وما يخادعون" كالأولى، والباقون: وما يخدعون، فيحتمل أن تكون القراءتان بمعنى واحد، أي يكون فاعل بمعنى فعل، ويحتمل أن تكون المفاعلة على بابها، أعني صدورها من اثنين، فهم يخادعون أنفسهم، حيث يمنونها الأباطيل، وأنفسهم تخادعهم حيث تمنيهم ذلك - أيضا - فكأنها محاورة بين اثنين، ويكون هذا قريبا من قول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      175 - لم تدر ما لا ولست قائلها     عمرك ما عشت آخر الأبد
                                                                                                                                                                                                                                      ولم تؤامر نفسيك ممتريا     فيها وفي أختها لم تكد



                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر:


                                                                                                                                                                                                                                      176 - يؤامر نفسيه وفي العيش فسحة     أيستوقع الذوبان أم لا يطورها



                                                                                                                                                                                                                                      وقوله "إلا أنفسهم": "إلا" في الأصل حرف استثناء، وأنفسهم مفعول به، وهذا الاستثناء مفرغ، وهو عبارة عما افتقر فيه ما قبل "إلا" لما بعدها، ألا ترى أن "يخادعون" يفتقر إلى مفعول، ومثله: "ما قام إلا زيد" فقام يفتقر إلى فاعل، والتام بخلافه، أي: ما لم يفتقر فيه ما قبل "إلا" لما بعدها، نحو: قام القوم إلا زيدا، وضربت القوم إلا بكرا، فقام قد أخذ فاعله، وضربت أخذ مفعوله، وشرط الاستثناء المفرغ أن يكون بعد نفي أو شبهه كالاستفهام والنفي.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قولهم: "قرأت إلا يوم كذا" فالمعنى على نفي مؤول تقديره: [ ص: 128 ] ما تركت القراءة إلا يوم كذا، ومثله: ويأبى الله إلا أن يتم نوره وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين وللاستثناء أحكام كثيرة تأتي مفصلة في غضون الكتاب إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ: "وما يخدعون" مبنيا للمفعول، وتخريجها على أن الأصل وما يخدعون إلا عن أنفسهم، فلما حذف الحرف انتصب على حد:


                                                                                                                                                                                                                                      177 - تمرون الديار ولم تعوجوا      . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      و"يخدعون"، من خدع مشددا، و"يخدعون" بفتح الياء والتشديد، والأصل: يختدعون فأدغم.

                                                                                                                                                                                                                                      وما يشعرون هذه الجملة الفعلية، يحتمل ألا يكون لها محل من الإعراب؛ لأنها استئناف، وأن يكون لها محل وهو النصب على الحال من فاعل "يخدعون"، والمعنى: وما يرجع وبال خداعهم إلا على أنفسهم غير شاعرين بذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      ومفعول "يشعرون" محذوف للعلم به، تقديره: وما يشعرون أن وبال خداعهم راجع على أنفسهم، أو اطلاع الله عليهم، والأحسن ألا يقدر له مفعول؛ لأن الغرض نفي الشعور عنهم البتة من غير نظر إلى متعلقه، والأول يسمى حذف الاختصار، ومعناه حذف الشيء لدليل، والثاني يسمى حذف الاقتصار، وهو حذف الشيء لا لدليل.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 129 ] والشعور: إدراك الشيء من وجه يدق ويخفى، مشتق من الشعر لدقته، وقيل: هو الإدراك بالحاسة مشتق من الشعار، وهو ثوب يلي الجسد، ومنه مشاعر الإنسان أي حواسه الخمس التي يشعر بها.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية