الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (12) قوله تعالى: ألا إنهم هم المفسدون : الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      "ألا" حرف تنبيه واستفتاح، وليست مركبة من همزة الاستفهام ولا النافية، بل هي بسيطة، ولكنها لفظ مشترك بين التنبيه والاستفتاح، فتدخل على الجملة اسمية كانت أو فعلية، وبين العرض والتخصيص، فتختص بالأفعال لفظا أو تقديرا، وتكون النافية للجنس دخلت عليها همزة الاستفهام، ولها أحكام تقدم بعضها عند قوله لا ريب فيه وتكون للتمني فتجري مجرى "ليت" في بعض أحكامها.

                                                                                                                                                                                                                                      وأجاز بعضهم أن تكون جوابا بمعنى بلى، يقول القائل: لم يقم زيد، فتقول: ألا، بمعنى بلى قد قام، وهو غريب.

                                                                                                                                                                                                                                      و"إنهم" "إن" واسمها، و"هم" تحتمل ثلاثة أوجه، أحدها: أن تكون تأكيدا لاسم "إن" لأن الضمير المنفصل المرفوع يجوز أن يؤكد به جميع ضروب الضمير المتصل، وأن تكون فصلا، وأن تكون مبتدأ و"المفسدون" خبره، وهما خبر لـ"إن"، وعلى القولين الأولين يكون "المفسدون" وحده خبرا لـ"إن".

                                                                                                                                                                                                                                      وجيء في هذه الجملة بضروب من التأكيد، منها: الاستفتاح، والتنبيه، والتأكيد بإن وبالإتيان، وبالتأكيد أو الفصل بالضمير، وبالتعريف في الخبر؛ مبالغة في الرد عليهم فيما ادعوه من قولهم: إنما نحن مصلحون، لأنهم أخرجوا الجواب جملة [ ص: 140 ] اسمية مؤكدة بإنما؛ ليدلوا بذلك على ثبوت الوصف لهم فرد الله عليهم بأبلغ وآكد مما ادعوه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ولكن لا يشعرون الواو عاطفة لهذه الجملة على ما قبلها و"لكن" معناها الاستدراك، وهو معنى لا يفارقها، وتكون عاطفة في المفردات، ولا تكون إلا بين ضدين أو نقيضين، وفي الخلافين خلاف، نحو: "ما قام زيد لكن خرج بكر"، واستدل بعضهم على ذلك بقول طرفة:


                                                                                                                                                                                                                                      190 - ولست بحلال التلاع لبيته ولكن متى يسترفد القوم أرفد



                                                                                                                                                                                                                                      فقوله: "متى يسترفد القوم أرفد" ليس ضدا ولا نقيضا لما قبله، ولكنه خلافه.

                                                                                                                                                                                                                                      قال بعضهم: وهذا لا دليل فيه على المدعى؛ لأن قوله: "لست بحلال التلاع لبيته" كناية عن نفي البخل أي: لا أحل التلاع لأجل البخل، وقوله: "متى يسترفد القوم أرفد" كناية عن الكرم، فكأنه قال: لست بخيلا ولكن كريما، فهي هنا واقعة بين ضدين.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا تعمل مخففة خلافا ليونس، ولها أحكام كثيرة.

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى الاستدراك في هذه الآية يحتاج إلى فضل تأمل ونظر، وذلك أنهم لما نهوا عن اتخاذ مثل ما كانوا يتعاطونه من الإفساد فقابلوا ذلك بأنهم مصلحون في ذلك، وأخبر تعالى بأنهم هم المفسدون، كانوا حقيقين بأن يعلموا أن ذلك كما أخبر تعالى وأنهم لا يدعون أنهم مصلحون، فاستدرك عليهم هذا المعنى الذي فاتهم من عدم الشعور بذلك، ومثله قولك: "زيد جاهل ولكن لا يعلم"، وذلك أنه من حيث اتصف بالجهل، وصار الجهل وصفا قائما به كان ينبغي أن يعلم بهذا الوصف من نفسه؛ لأن الإنسان ينبغي [ ص: 141 ] له أن يعلم ما اشتملت عليه نفسه من الصفات، فاستدركت عليه أن هذا الوصف القائم به لا يعلمه؛ مبالغة في جهله.

                                                                                                                                                                                                                                      ومفعول "يشعرون" محذوف: إما حذف اختصار، أي: لا يشعرون بأنهم مفسدون، وإما حذف اقتصار، وهو الأحسن، أي ليس لهم شعور البتة.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية