الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء عند المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          386 386 - ( مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب ) المدني صدوق مات سنة بضع وثلاثين ومائة ( عن أبيه ) عبد الرحمن الجهني المدني ثقة ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ألا ) بفتح الهمزة والتخفيف حرف تنبيه يفيد تحقيق ما بعده لتركبها من الهمزة ولا النافية وهمزة الاستفهام إذا دخلت على النفي أفادت التحقيق ، ( أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ) قال الباجي : كناية عن غفرانها والعفو عنها وقد يكون محوها من كتاب الحفظة دليلا على عفوه تعالى عمن كتبت عليه ، ( ويرفع به الدرجات ) أي المنازل في الجنة ويحتمل أن يريد رفع درجته في الدنيا بالذكر الجميل وفي الآخرة بالثواب الجزيل .

                                                                                                          وقال أبو عمر : هذا الحديث من أحسن ما يروى في فضائل الأعمال ، وفيه طرح المسألة على المتعلم .

                                                                                                          زاد في رواية لمسلم : قالوا : بلى يا رسول الله ، قال الأبي : جوابهم ببلى يدل على أن لا في ألا نافية دخلت عليها ألف الاستفهام ، ويحتمل أنها للاستفتاح ( إسباغ الوضوء ) أي إكماله وإتمامه واستيعاب أعضائه بالماء ، قال تعالى : ( وأسبغ عليكم نعمه ) ( سورة لقمان : الآية 20 ) أي أتمها وأكملها ( عند المكاره ) جمع مكرهة بمعنى الكره والمشقة ، قال أبو عمر : هي شدة البرد وكل حال يكره المرء فيها نفسه على الوضوء ، قال عبيد بن عمير : من صدق الإيمان وبره إسباغ الوضوء على المكاره ، ومن صدق الإيمان أن يخلو الرجل بالمرأة الجميلة فيدعها لا يدعها إلا لله .

                                                                                                          وقال الباجي : ومن المكاره شدة برد وعلة جسم وقلة ماء وحاجة إلى النوم وعجلة إلى أمر مهم وغير ذلك .

                                                                                                          ( وكثرة الخطا ) بالضم جمع خطوة بالفتح المرة والضم ما بين القدمين ( إلى المساجد ) وهو يكون ببعد الدار عن المسجد ، ويكون بكثرة التكرر عليه قال اليعمري : وفيه أن بعد الدار عن المسجد أفضل ، وقد صرح به في قوله لبني سلمة وقد أرادوا أن يتحولوا قريبا من المسجد : يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم .

                                                                                                          وقال الأبي عن العز بن عبد السلام : لا يمر إلى المسجد من أبعد طريقيه ليكثر الخطا لأن الغرض الحصول في المسجد وهو يحصل بالقريبة ، قال : والحديث إنما هو تنشيط لمن بعدت [ ص: 557 ] داره أن لا يكسل ، ومن نحو ما ذكر أن لا يؤثر أبعد المسجدين منه بالصلاة فيه مع ما جاء لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ، وقالت عائشة : " يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي ؟ قال : إلى أقربهما دارا " وإمام المسجد لا يمنعه أخذ المرتب من ثواب تكرره إليه انتهى .

                                                                                                          ( وانتظار الصلاة بعد الصلاة ) قال المظهري : أي إذا صلى بالجماعة ينتظر صلاة أخرى يتعلق ذكره لها ، إما بأن يجلس في المسجد ينتظرها أو يكون في بيته أو يشتغل بكسبه وقلبه متعلق بها ينتظر حضورها ، فكل ذلك داخل في هذا الحكم ، ويؤيده حديث : " ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه " انتهى .

                                                                                                          وقال الباجي : هذا إنما يكون في صلاتين : العصر بعد الظهر والعشاء بعد المغرب ، وأما انتظار الصبح بعد العشاء فلم يكن من عمل الناس ، وكذا انتظار الظهر بعد الصبح ، وأما انتظار المغرب بعد العصر فلا أذكر فيه نصا وحكمه عندي كالصبح بعد العشاء والظهر بعد الصبح ، لأن الذي ينتظر صلاة ليس بينها وبين التي صلى اشتراك في وقت ، قال : وفي ظني أني رأيته رواية لابن وهب عن مالك ولا أذكر موضعها الآن ، وتعقبه الأبي بأنه ليس في الحديث ما يدل على المشتركتين لولا ما ذكره أنه ليس من عمل الناس ، وهو بناء على أنه يعني بالانتظار الجلوس بالمسجد .

                                                                                                          قال ابن العربي : ويحتمل أن يريد به تعلق القلب بالصلاة فيعم الخمس ، قال الشيخ يعني ابن عرفة : جلوس الإمام في المسجد ينتظر الصلاة يدفع بذلك مشقة الرجوع لبعد أو مطر لا يمنع من نيل الثواب وفي المذكور وفي انتظار الإمام ذلك بالدويرة التي بالجامع نظر انتهى .

                                                                                                          ( فذلكم ) المذكور من الثلاثة عند الطيبي وابن عرفة أو الإشارة لانتظار الصلاة كما عليه ابن عبد البر ، وقال الأبي : إنه الأظهر ( الرباط ) المرغب فيه لأنه ربط نفسه على هذا العمل وحبسها عليه ، ويحتمل أن يريد تفضيل هذا الرباط على غيره من الرباط في الثغور ولذا قال : ( فذلكم الرباط ) أي إنه أفضل أنواعه ، كما يقال : جهاد النفس هو الجهاد أي إنه أفضله ، ويحتمل أن يريد الرباط الممكن المتيسر ، وقد قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي : إن ذلك من ألفاظ الحصر .

                                                                                                          ( فذلكم الرباط ) ذكره ثلاثا على معنى التعظيم لشأنه أو الإبهام أو غير ذلك قاله الباجي ، وقيل : أراد أن ثوابه كثواب الرباط .

                                                                                                          وقال ابن العربي : يعني به تفسير قوله تعالى : ( اصبروا وصابروا ورابطوا ) ( سورة آل عمران : الآية 200 ) وقال أبو عمر : الرباط هنا ملازمة المسجد لانتظار الصلاة ، قال صاحب العين : الرباط ملازمة الثغور والرباط مواظبة الصلاة .

                                                                                                          وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن في قوله تعالى : ( اصبروا وصابروا ورابطوا ) لم يكن الرباط على عهده صلى الله عليه وسلم ولكن نزلت في انتظار الصلاة .

                                                                                                          [ ص: 558 ] وقال محمد بن كعب القرظي : اصبروا على دينكم ، وصابروا الوعد الذي وعدتكم ، ورابطوا عدوي وعدوكم انتهى .

                                                                                                          وقال الطيبي في قوله : ( فذلكم الرباط ) معنى حديث " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " لإتيانه باسم الإشارة الدال على بعد منزلة المشار إليه في مقام التعظيم وإيقاع الرباط المحلى بلام الجنس خبرا لاسم الإشارة كما في قوله : ( الم ذلك الكتاب ) ( سورة البقرة : الآية 1 ، 2 ) إذ التعريف في الخبر للجنس ، ولما أريد تقرير ذلك مزيد تقرير واهتمام بشأنه كرره ثلاثا ، وتخصيصها بالثلاث لأن الأعمال المذكورة في الحديث ثلاث ، وأتى باسم الإشارة إشارة إلى تعظيمه بالبعد ، وهذا الحديث رواه مسلم من طريق معن عن مالك به ، وتابعه إسماعيل وشعبة كلاهما عن العلاء إلا أنه ليس في حديث شعبة ذكر الرباط وفي رواية إسماعيل فذلكم الرباط مرة ، وفي حديث مالك مرتين ، كذا قال مسلم بناء على رواية معن عنده ، وإلا فأكثر الموطآت ثلاثا ، وكذا أخرجه الشافعي وأحمد والترمذي والنسائي كلهم من طريق مالك ثلاثا .




                                                                                                          الخدمات العلمية