الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (30) قوله تعالى: وإذ قال ربك للملائكة : "إذ" ظرف زمان ماض، يخلص المضارع للمضي وبني لشبهه بالحرف في الوضع والافتقار، وتليه الجمل مطلقا، فإذا كانت الجملة فعلية قبح تقديم الاسم وتأخير الفعل نحو: إذ زيد قام، ولا يتصرف إلا بإضافة الزمن إليه نحو: يومئذ وحينئذ، ولا يكون مفعولا به، وإن قال به أكثر المعربين، فإنهم يقدرون: اذكر وقت كذا، ولا ظرف مكان ولا زائدا ولا حرفا للتعليل ولا للمفاجأة خلافا [ ص: 248 ] لزاعمي ذلك، وقد تحذف الجملة المضاف هو إليها للعلم، ويعوض منها تنوين كقوله تعالى: وأنتم حينئذ تنظرون وليس كسرته - والحالة هذه - كسرة إعراب، ولا تنوينه تنوين صرف خلافا للأخفش، بل الكسر لالتقاء الساكنين، والتنوين للعوض بدليل وجود الكسر ولا إضافة، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      327 - نهيتك عن طلابك أم عمرو بعاقبة وأنت إذ صحيح



                                                                                                                                                                                                                                      وللأخفش أن يقول: أصله "وأنت حينئذ" فلما حذف المضاف بقي المضاف إليه على حاله ولم يقم مقامه، نحو: (والله يريد الآخرة) بالجر، إلا أنه ضعيف.

                                                                                                                                                                                                                                      و قال ربك جملة فعلية في محل خفض بإضافة الظرف إليها.

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن "إذ" فيه تسعة أوجه:

                                                                                                                                                                                                                                      أحسنها أنه منصوب بـ قالوا أتجعل فيها أي: قالوا ذلك القول وقت قول الله تعالى لهم: (إني جاعل في الأرض خليفة)، وهذا أسهل الأوجه.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أنه منصوب بـ "اذكر" مقدرا وقد تقدم أنه [ ص: 249 ] لا يتصرف فلا يقع مفعولا.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أنه منصوب بـ"خلقكم" المتقدم في قوله: اتقوا ربكم الذي خلقكم والواو زائدة، وهذا ليس بشيء لطول الفصل.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: أنه منصوب بـ "قال" بعده، وهو فاسد لأن المضاف إليه لا يعمل في المضاف.

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس: أنه زائد ويعزى لأبي عبيد.

                                                                                                                                                                                                                                      السادس: أنه بمعنى قد.

                                                                                                                                                                                                                                      السابع: أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: ابتداء خلقكم وقت قول ربك.

                                                                                                                                                                                                                                      الثامن: أنه منصوب بفعل لائق، تقديره: ابتدأ خلقكم وقت قوله ذلك، وهذان ضعيفان؛ لأن وقت ابتداء الخلق ليس وقت القول، وأيضا فإنه لا يتصرف.

                                                                                                                                                                                                                                      التاسع: أنه منصوب بـ"أحياكم" مقدرا، وهذا مردود باختلاف الوقتين أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                      و"للملائكة" متعلق بـ"قال" واللام للتبليغ.

                                                                                                                                                                                                                                      وملائكة جمع ملك.

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف في "ملك" على ستة أقوال، وذلك أنهم اختلفوا في ميمه، هل هي أصلية أو زائدة؟ والقائلون بأصالتها اختلفوا، فقال بعضهم: ملك ووزنه فعل من الملك، وشذ جمعه على فعائلة فالشذوذ في جمعه فقط.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعضهم: بل أصله ملأك، والهمزة فيه زائدة كشمأل ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام وحذفت الهمزة تخفيفا، والجمع جاء على أصل الزيادة فهذان [ ص: 250 ] قولان عند هؤلاء.

                                                                                                                                                                                                                                      والقائلون بزيادتها اختلفوا أيضا، فمنهم من قال: هو مشتق من "ألك" أي: أرسل ففاؤه همزة وعينه لام، ويدل عليه قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      328 - أبلغ أبا دختنوس مألكة     غير الذي قد يقال ملكذب



                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر:


                                                                                                                                                                                                                                      329 - وغلام أرسلته أمه     بألوك فبذلنا ما سأل



                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر:


                                                                                                                                                                                                                                      330 - أبلغ النعمان عني مألكا     أنه قد طال حبسي وانتظاري



                                                                                                                                                                                                                                      فأصل ملك: مألك، ثم قلبت العين إلى موضع الفاء، والفاء إلى موضع العين فصار ملأكا على وزن معفل، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام وحذفت الهمزة تخفيفا، فيكون وزن ملك: معلا بحذف الفاء.

                                                                                                                                                                                                                                      ومنهم من قال: هو مشتق من لأك أي أرسل أيضا، ففاؤه لام وعينه همزة ثم نقلت حركة الهمزة وحذفت كما تقدم، ويدل على ذلك أنه قد نطق بهذا الأصل قال:


                                                                                                                                                                                                                                      331 - فلست لإنسي ولكن لملأك     تنزل من جو السماء يصوب



                                                                                                                                                                                                                                      ثم جاء الجمع على الأصل فردت الهمزة على كلا القولين، فوزن ملائكة على هذا القول: مفاعلة، وعلى القول الذي قبله: معافلة بالقلب.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 251 ] وقيل: هو مشتق من: لاكه يلوكه أي: أداره يديره؛ لأن الملك يدير الرسالة في فيه، فأصل ملك: ملوك، فنقلت حركة الواو إلى اللام الساكنة قبلها، فتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفا فصار ملاكا مثل مقام، ثم حذفت الألف تخفيفا فوزنه مفل بحذف العين، وأصل ملائكة ملاوكة فقلبت الواو همزة، ولكن شرط قلب الواو والياء همزة بعد ألف مفاعل أن تكون زائدة، نحو عجائز ورسائل، على أنه قد جاء ذلك في الأصلي قليلا قالوا: مصائب ومنائر، قرئ شاذا: "معائش" بالهمز، فهذه خمسة أقوال.

                                                                                                                                                                                                                                      والسادس: قال النضر بن شميل: "لا اشتقاق للملك عند العرب".

                                                                                                                                                                                                                                      والهاء في ملائكة لتأنيث الجمع نحو: صلادمة، وقيل للمبالغة كعلامة ونسابة، وليس بشيء، وقد تحذف هذه الهاء شذوذا، قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      332 - أبا خالد صلت عليك الملائك      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      قوله: إني جاعل في الأرض خليفة هذه الجملة معمول القول، فهي [ ص: 252 ] في محل نصب به، وكسرت "إن" هنا لوقوعها بعد القول المجرد من معنى الظن محكية به، فإن كان بمعنى الظن جرى فيها وجهان: الفتح والكسر، وأنشدوا:


                                                                                                                                                                                                                                      333 - إذا قلت أني آيب أهل بلدة     نزعت بها عنه الولية بالهجر



                                                                                                                                                                                                                                      وكان ينبغي أن يفتح ليس إلا نظرا لمعنى الظن، لكن قد يقال: جاز الكسر مراعاة لصورة القول.

                                                                                                                                                                                                                                      و"إن" على ثلاثة أقسام؛ قسم يجب فيه كسرها، وقسم يجب فيه فتحها، وقسم يجوز فيه وجهان، وليس هذا موضع تقريره، بل يأتي في غضون السور، ولكن الضابط الكلي في ذلك أن كل موضع سد مسدها المصدر وجب فيه فتحها، نحو: بلغني أنك قائم، وكل موضع لم يسد مسدها وجب فيه كسرها كوقوعها بعد القول، ومبتدأة، وصلة، وحالا، وكل موضع جاز أن يسد مسدها جاز الوجهان كوقوعها بعد فاء الجزاء، وإذا الفجائية، وهذه أشد العبارات في هذا الضابط.

                                                                                                                                                                                                                                      و"جاعل" فيه قولان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما أنه بمعنى خالق، فيكون "خليفة" مفعولا به، و"في الأرض" فيه حينئذ قولان، أحدهما وهو الواضح أنه [ ص: 253 ] متعلق بـ(جاعل)، الثاني: أنه متعلق بمحذوف؛ لأنه حال من النكرة بعده.

                                                                                                                                                                                                                                      القول الثاني: أنه بمعنى مصير، ولم يذكر الزمخشري غيره، فيكون "خليفة" هو المفعول الأول، و"في الأرض" هو الثاني قدم عليه، ويتعلق بمحذوف على ما تقرر.

                                                                                                                                                                                                                                      و"خليفة" يجوز أن يكون بمعنى فاعل أي: يخلفكم أو يخلف من كان قبله من الجن، وهذا أصح لدخول تاء التأنيث عليه، وقيل: بمعنى مفعول أي: يخلف كل جيل من تقدمه، وليس دخول التاء حينئذ قياسا، إلا أن يقال: إن "خليفة "جرى مجرى الجوامد كالنطيحة والذبيحة.

                                                                                                                                                                                                                                      وإنما وحد "خليفة" وإن كان المراد الجمع؛ لأنه أريد به آدم وذريته، ولكن استغني بذكره كما يستغنى بذكر أبي القبيلة نحو: مضر وربيعة، وقيل: المعنى على الجنس.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ: "خليقة" بالقاف.

                                                                                                                                                                                                                                      و"خليفة" منصوب بـ"جاعل" كما تقدم؛ لأنه اسم فاعل، واسم الفاعل يعمل عمل فعله مطلقا إن كان فيه الألف واللام، وبشرط الحال أو الاستقبال والاعتماد إذا لم يكونا فيه، ويجوز إضافته لمعموله تخفيفا ما لم يفصل بينهما كهذه الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 254 ] قوله: قالوا أتجعل فيها من يفسد قد تقدم أن "قالوا" عامل في "إذ قال ربك" وأنه المختار، والهمزة في "أتجعل" للاستفهام على بابها، وقال الزمخشري : "للتعجب"، وقيل: للتقرير كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      334 - ألستم خير من ركب المطايا     وأندى العالمين بطون راح



                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو البقاء : "للاستشهاد"، أي: أتجعل فيها من يفسد كمن كان قبل، وهي عبارة غريبة.

                                                                                                                                                                                                                                      و"فيها" الأولى متعلقة بـ"تجعل" إن قيل: إنها بمعنى الخلق، و"من يفسد" مفعول به، وإن قيل إنها بمعنى التصيير فيكون "فيها" مفعولا ثانيا قدم على الأول وهو "من يفسد"، و"من" تحتمل أن تكون موصولة أو نكرة موصوفة، فعلى الأول لا محل للجملة بعدها من الإعراب، وعلى الثاني محلها النصب، و"فيها" الثانية متعلقة بـ"يفسد".

                                                                                                                                                                                                                                      و"يسفك" عطف على "يفسد" بالاعتبارين.

                                                                                                                                                                                                                                      والجمهور على رفعه، وقرئ منصوبا على جواب الاستفهام بعد الواو التي تقتضي الجمع بإضمار "أن" كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      335 - أتبيت ريان الجفون من الكرى     وأبيت منك بليلة الملسوع



                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عطية : "منصوب بواو الصرف" وهذه عبارة الكوفيين ، ومعنى [ ص: 255 ] واو الصرف أن الفعل كان يقتضي إعرابا فصرفته الواو عنه إلى النصب، والمشهور "يسفك" بكسر الفاء، وقرئ بضمها، وقرئ - أيضا - بضم حرف المضارعة من أسفك وقرئ - أيضا - مشددا للتكثير.

                                                                                                                                                                                                                                      والسفك: هو الصب، ولا يستعمل إلا في الدم، وقال ابن فارس، والجوهري: "يستعمل - أيضا - في الدمع".

                                                                                                                                                                                                                                      وقال المهدوي: "ولا يستعمل السفك إلا في الدم، وقد يستعمل في نثر الكلام، يقال: سفك الكلام أي: نثره".

                                                                                                                                                                                                                                      و(الدماء): جمع دم، ولا يكون اسم معرب على حرفين، فلا بد له من ثالث محذوف هو لامه، ويجوز أن تكون واوا وأن تكون ياء، لقولهم في التثنية: دموان ودميان، قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      336 - فلو أنا على حجر ذبحنا     جرى الدميان بالخبر اليقين



                                                                                                                                                                                                                                      وهل وزن دم "فعل" بسكون العين أو فعل بفتحها قولان، وقد يرد [ ص: 256 ] محذوفه، فيستعمل مقصورا كعصا وغيره، وعليه قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      337 - كأطوم فقدت برغزها     أعقبتها الغبس منه عدما
                                                                                                                                                                                                                                      غفلت ثم أتت تطلبه     فإذا هي بعظام ودما



                                                                                                                                                                                                                                      وقد تشدد ميمه أيضا، قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      338 - أهان دمك فرغا بعد عزته     يا عمرو بغيك إصرارا على الحسد



                                                                                                                                                                                                                                      وأصل الدماء: الدماو أو الدماي، فقلب حرف العلة همزة لوقوعه طرفا بعد ألف زائدة نحو: كساء ورداء.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك الواو للحال، و ونحن نسبح جملة من مبتدأ وخبر، في محل النصب على الحال، و"بحمدك" متعلق بمحذوف؛ لأنه حال أيضا، والباء فيه للمصاحبة أي نسبح ملتبسين بحمدك، نحو: "جاء زيد بثيابه" فهما حالان متداخلتان، أي حال في حال.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: الباء للسببية، فتتعلق بالتسبيح.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عطية : "ويحتمل أن يكون قولهم: "بحمدك" اعتراضا بين الكلامين، كأنهم قالوا: ونحن نسبح [ ص: 257 ] ونقدس، ثم اعترضوا على جهة التسليم، أي: وأنت المحمود في الهداية إلى ذلك، قلت: كأنه يحاول أن تكون الباء للسببية، ولكن يكون ما تعلقت به الباء فعلا محذوفا لائقا بالمعنى تقديره: حصل لنا التسبيح والتقديس بسبب حمدك.

                                                                                                                                                                                                                                      والحمد هنا: مصدر مضاف لمفعوله، وفاعله محذوف تقديره: بحمدنا إياك.

                                                                                                                                                                                                                                      وزعم بعضهم أن الفاعل مضمر فيه وهو غلط; لأن المصدر اسم جامد لا يضمر فيه، على أنه قد حكي خلاف في المصدر الواقع موقع الفعل نحو: ضربا زيدا، هل يتحمل ضميرا أم لا؟ وقد تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      و"نقدس" عطف على "نسبح" فهو خبر - أيضا - عن "نحن" ومفعوله محذوف أي: نقدس أنفسنا وأفعالنا لك، و"لكم" متعلق به أو بـ"نسبح"، ومعناها العلة، وقيل: هي زائدة، فإن ما قبلها متعد بنفسه، وهو ضعيف إذ لا تزاد إلا مع تقديم المعمول أو يكون العامل فرعا، وقيل: هي معدية نحو: سجدت لله، وقيل: هي للبيان، كهي في قولك: سقيا لك، فعلى هذا يتعلق بمحذوف ويكون خبر مبتدأ مضمر أي: تقديسنا لك، وهذا التقدير أحسن من تقدير قولهم: "أعني" لأنه أليق بالموضع.

                                                                                                                                                                                                                                      وأبعد من زعم أن جملة قوله "ونحن نسبح" داخلة في حيز استفهام مقدر تقديره: وأنحن [ ص: 258 ] نسبح أم نتغير؟

                                                                                                                                                                                                                                      واستحسنه ابن عطية مع القول بالاستفهام المحض في قولهم: "أتجعل"، وهذا يأباه الجمهور، أعني حذف همزة الاستفهام من غير ذكر "أم" المعادلة وهو رأي الأخفش، وجعل من ذلك قوله تعالى: وتلك نعمة تمنها علي أي: وأتلك نعمة، وقول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      339 - طربت وما شوقا إلى البيض أطرب     ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب



                                                                                                                                                                                                                                      أي: وأذو الشيب، وقول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      340 - أفرح أن أرزأ الكرام وأن     أورث ذودا شصائصا نبلا



                                                                                                                                                                                                                                      أي: أأفرح، فأما مع "أم" فإنه جائز لدلالتها عليه كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      341 - فوالله ما أدري وإن كنت داريا     بسبع رمين الجمر أم بثمان



                                                                                                                                                                                                                                      أي: أبسبع.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 259 ] والتسبيح: التنزيه والبراءة، وأصله من السبح وهو البعد، ومنه السابح في الماء، فمعنى "سبحان الله" أي: تنزيها له وبراءة عما لا يليق بجلاله ومنه قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      342 - أقول لما جاءني فخره     سبحان من علقمة الفاخر



                                                                                                                                                                                                                                      أي: تنزيها، وهو مختص بالباري تعالى، قال الراغب في قوله سبحان من علقمة: "إن أصله سبحان علقمة، على سبيل التهكم فزاد فيه "من"، وقيل: تقديره: سبحان الله من أجل علقمة"، فظاهر قوله أنه يجوز أن يقال لغير الباري تعالى على سبيل التهكم، وفيه نظر.

                                                                                                                                                                                                                                      والتقديس: التطهير، ومنه الأرض المقدسة، وبيت المقدس، وروح القدس، وقال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      343 - فأدركنه يأخذن بالساق والنسا     كما شبرق الولدان ثوب المقدس



                                                                                                                                                                                                                                      أي: المطهر لهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري : "هو من قدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد، فمعناه قريب من معنى نسبح"، انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: قال إني أعلم ما لا تعلمون أصل إني: إنني، فاجتمع [ ص: 260 ] ثلاثة أمثال، فحذفنا أحدها، وهل هو نون الوقاية أو النون الوسطى؟ قولان، الصحيح الثاني، وهذا شبيه بما تقدم في إنا معكم وبابه.

                                                                                                                                                                                                                                      والجملة في محل نصب بالقول، و"أعلم" يجوز فيه أن يكون فعلا مضارعا وهو الظاهر، و"ما" مفعول به، وهي: إما نكرة موصوفة أو موصولة، وعلى كل تقدير فالعائد محذوف لاستكماله الشروط أي: تعلمونه، وقال المهدوي، ومكي وتبعهما أبو البقاء : "إن "أعلم" اسم بمعنى عالم" كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      344 - لعمرك ما أدري وإني لأوجل     على أينا تعدو المنية أول



                                                                                                                                                                                                                                      فـ"ما" يجوز فيها أن تكون في محل جر بالإضافة أو نصب بـ"أعلم" ولم ينون "أعلم" لعدم انصرافه، نحو: "هؤلاء حواج بيت الله" وهذا مبني على أصلين ضعيفين، أحدهما: جعل أفعل بمعنى فاعل من غير تفضيل، والثاني أن أفعل إذا كانت بمعنى اسم الفاعل عملت عمله، والجمهور لا يثبتونها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: "أعلم" على بابها من كونها للتفضيل، والمفضل عليه محذوف، أي: أعلم منكم، و"ما" منصوبة بفعل محذوف دل عليه أفعل، أي: علمت ما لا تعلمون، ولا جائز أن ينصب بأفعل التفضيل [ ص: 261 ] لأنه أضعف من الصفة، التي هي أضعف من اسم الفاعل، الذي هو أضعف من الفعل في العمل، وهذا يكون نظير ما أولوه من قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      345 - فلم أر مثل الحي حيا مصبحا     ولا مثلنا يوم التقينا فوارسا
                                                                                                                                                                                                                                      أكر وأحمى للحقيقة منهم     وأضرب منا بالسيوف القوانسا



                                                                                                                                                                                                                                      فـ(القوانس) منصوب بفعل مقدر، أي بـ"ضرب"، لا بـ"أضرب"، وفي ادعاء مثل ذلك في الآية الكريمة بعد لحذف شيئين: المفضل عليه والناصب لـ"ما".

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية