الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (40) قوله تعالى: يا بني إسرائيل : "بني" منادى وعلامة نصبه الياء؛ لأنه جمع مذكر سالم وحذفت نونه للإضافة، وهو شبيه بجمع التكسير لتغير مفرده، ولذلك عامله العرب ببعض معاملة التكسير فألحقوا في فعله المسند إليه تاء التأنيث نحو: قالت بنو فلان، وقال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      400 - قالت بنو عامر خالوا بني أسد يا بؤس للجهل ضرارا لأقوام



                                                                                                                                                                                                                                      وأعربوه بالحركات - أيضا - إلحاقا [له] به، قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      401 - وكان لنا أبو حسن علي     أبا برا ونحن له بنين



                                                                                                                                                                                                                                      برفع النون.

                                                                                                                                                                                                                                      وهل لامه ياء؛ لأنه مشتق من البناء لأن الابن من فرع الأب، ومبني عليه، أو واو لقولهم: البنوة كالأبوة والأخوة؟ قولان، الصحيح الأول، وأما البنوة فلا دلالة فيها لأنهم قد قالوا: الفتوة، ولا خلاف أنها من ذوات الياء، إلا أن الأخفش رجح الثاني بأن حذف الواو أكثر.

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف في [ ص: 310 ] وزنه فقيل: بني بفتح العين وقيل بني بسكونها، وقد تقدم أنه أحد الأسماء العشرة التي سكنت فاؤها وعوض من لامها همزة الوصل.

                                                                                                                                                                                                                                      و(إسرائيل): خفض بالإضافة، ولا ينصرف للعلمية والعجمة، وهو مركب تركيب الإضافة مثل: عبد الله، فإن "إسرا" هو العبد بلغتهم، و"إيل" هو الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: "إسرا" مشتق من الأسر وهو القوة، فكأن معناه: الذي قواه الله.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: لأنه أسري بالليل مهاجرا إلى الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: لأنه أسر جنيا كان يطفئ سراج بيت المقدس.

                                                                                                                                                                                                                                      قال بعضهم: فعلى هذا يكون الاسم عربيا وبعضه أعجميا، وقد تصرفت فيه العرب بلغات كثيرة أفصحها لغة القرآن وهي قراءة الجمهور.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو جعفر والأعمش: "إسرايل" بياء بعد الألف من غير همزة، وروي عن ورش: "إسرائل" بهمزة بعد الألف دون ياء، و"إسرأل" بهمزة مفتوحة بين الراء واللام [وإسرئل بهمزة مكسورة بين الراء واللام] و"إسرال" بألف محضة بين الراء واللام، قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      402 - لا أرى من يعينني في حياتي     غير نفسي إلا بني إسرال



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 311 ] وتروى قراءة عن نافع.

                                                                                                                                                                                                                                      و"إسرائين" أبدلوا من اللام نونا كأصيلان في أصيلال، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      403 - قالت وكنت رجلا فطينا     هذا ورب البيت إسرائينا



                                                                                                                                                                                                                                      ويجمع على "أساريل"، وأجاز الكوفيون : أسارلة، وأسارل، كأنهم يجيزون التعويض وعدمه، نحو: فرازنة وفرازين.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الصفار: "لا نعلم أحدا يجيز حذف الهمزة من أوله".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: اذكروا نعمتي اذكروا فعل وفاعل، ونعمتي مفعول، وقال ابن الأنباري: "لا بد من حذف مضاف تقديره: شكر نعمتي.

                                                                                                                                                                                                                                      والذكر والذكر بكسر الذال وضمها بمعنى واحد، ويكونان باللسان وبالجنان.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الكسائي: "هو بالكسر للسان وبالضم للقلب" فضد المكسور: الصمت، وضد المضموم: النسيان، وفي الجملة فالذكر الذي محله القلب ضده النسيان، والذي محله اللسان ضده الصمت، سواء قيل: إنهما بمعنى واحد أم لا.

                                                                                                                                                                                                                                      والنعمة: اسم لما ينعم به وهي شبيهة بفعل بمعنى مفعول نحو: ذبح ورعي، والمراد بها الجمع لأنها اسم جنس، قال تعالى: وإن تعدوا [ ص: 312 ] نعمت الله لا تحصوها .

                                                                                                                                                                                                                                      و التي أنعمت صفتها والعائد محذوف.

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل: من شرط حذف عائد الموصول إذا كان مجرورا أن يجر الموصول بمثل ذلك الحرف وأن يتحد متعلقهما، وهنا قد فقد الشرطان، فإن الأصل: التي أنعمت بها، فالجواب أنه إنما حذف بعد أن صار منصوبا بحذف حرف الجر اتساعا فبقي: أنعمتها، وهو نظير: كالذي خاضوا في أحد الأوجه، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      و"عليكم" متعلق به، وأتى بـ"على" دلالة على شمول النعمة لهم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وأوفوا بعهدي هذه جملة أمرية عطف على الأمرية قبلها، ويقال: أوفى ووفى ووفى مشددا ومخففا، ثلاث لغات بمعنى، قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      404 - أما ابن طوق فقد أوفى بذمته     كما وفى بقلاص النجم حاديها



                                                                                                                                                                                                                                      فجمع بين اللغتين.

                                                                                                                                                                                                                                      ويقال: أوفيت ووفيت بالعهد، وأوفيت الكيل لا غير.

                                                                                                                                                                                                                                      وعن بعضهم أن اللغات الثلاث واردة في القرآن، أما "أوفى" [ ص: 313 ] فكهذه الآية، وأما "وفى" بالتشديد فكقوله: وإبراهيم الذي وفى وأما "وفى" بالتخفيف فلم يصرح به، وإنما أخذ من قوله تعالى: ومن أوفى بعهده من الله وذلك أن أفعل التفضيل لا يبنى إلا من الثلاثي كالتعجب هذا هو المشهور، وإن كان في المسألة كلام كثير، ويحكى أن المستنبط لذلك أبو القاسم الشاطبي، ويجيء "أوفى" بمعنى ارتفع، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      405 - ربما أوفيت في علم     ترفعن ثوبي شمالات



                                                                                                                                                                                                                                      و"بعهدي" متعلق بـ"أوفوا" والعهد مصدر، ويحتمل إضافته للفاعل أو المفعول.

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى: بما عاهدتكم عليه من قبول الطاعة، ونحوه: ألم أعهد إليكم يا بني آدم أو بما عاهدتموني عليه، ونحوه: ومن أوفى بما عاهد عليه الله صدقوا ما عاهدوا الله عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "أوف" مجزوم على جواب الأمر، وهل الجازم الجملة الطلبية [ ص: 314 ] نفسها لما تضمنته من معنى الشرط، أو حرف شرط مقدر تقديره: "إن توفوا بعهدي أوف" قولان، وهكذا كل ما جزم في جواب طلب يجري [فيه] هذا الخلاف.

                                                                                                                                                                                                                                      و"بعهدكم" متعلق به، وهو محتمل للإضافة إلى الفاعل أو المفعول كما تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وإياي فارهبون "إياي" ضمير منصوب منفصل، وقد عرف ما فيه من الفاتحة.

                                                                                                                                                                                                                                      ونصبه بفعل محذوف يفسره الظاهر بعده، والتقدير: "وإياي ارهبوا فارهبون" وإنما قدرته متأخرا عنه؛ لأن تقديره متقدما عليه لا يحسن لانفصاله، وإن كان بعضهم قدره كذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      والفاء في "فارهبون" فيها قولان للنحويين، أحدهما: أنها جواب أمر مقدر تقديره: تنبهوا فارهبون، وهو نظير قولهم: "زيدا فاضرب" أي: تنبه فاضرب زيدا، ثم حذف: تنبه فصار: فاضرب زيدا، ثم قدم المفعول إصلاحا للفظ؛ لئلا تقع الفاء صدرا، وإنما دخلت الفاء لتربط هاتين الجملتين.

                                                                                                                                                                                                                                      والقول الثاني في هذه الفاء: أنها زائدة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشيخ بعد أن حكى القول الأول: "فتحتمل الآية وجهين أحدهما: أن يكون التقدير: وإياي ارهبوا تنبهوا فارهبون، فتكون الفاء دخلت في جواب الأمر وليست مؤخرة من تقديم.

                                                                                                                                                                                                                                      والوجه الثاني أن يكون التقدير: وتنبهوا فارهبون، ثم قدم المفعول فانفصل وأتي بالفاء حين قدم المفعول، [ ص: 315 ] وفعل الأمر الذي هو تنبهوا محذوف، فالتقى بحذفه الواو والفاء، يعني فصار التقدير: وفإياي ارهبوا، فقدم المفعول على الفاء إصلاحا للفظ، فصار: وإياي فارهبوا، ثم أعيد المفعول على سبيل التأكيد ولتكميل الفاصلة، وعلى هذا "فإياي" منصوب بما بعده لا بفعل محذوف، ولا يبعد تأكيد المنفصل بالمتصل كما لا يمتنع تأكيد المتصل بالمنفصل، وفيه نظر.

                                                                                                                                                                                                                                      والرهب والرهب والرهبة: الخوف، مأخوذ من الرهابة وهي عظم في الصدر يؤثر فيه الخوف.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية