الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (41) قوله تعالى: بما أنزلت . . "ما" يجوز أن تكون بمعنى الذي، والعائد محذوف، أي: الذي أنزلته، ويجوز أن تكون مصدرية، والمصدر واقع موقع المفعول أي بالمنزل.

                                                                                                                                                                                                                                      و "مصدقا" نصب على الحال، وصاحبها العائد المحذوف.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: صاحبها "ما" والعامل فيها "آمنوا" وأجاز بعضهم أن تكون "ما" مصدرية من غير جعله المصدر واقعا موقع مفعول به، وجعل "لما معكم" من تمامه، أي: بإنزالي لما معكم، وجعل "مصدقا" [ ص: 316 ] حالا من "ما" المجرورة باللام قدمت عليها وإن كان صاحبها مجرورا؛ لأن الصحيح جواز تقديم حال المجرور [بحرف الجر] عليه كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      406 - فإن تك أذواد أصبن ونسوة فلن يذهبوا فرغا بقتل حبال



                                                                                                                                                                                                                                      "فرغا" حال من "بقتل"، وأيضا فهذه اللام زائدة فهي في حكم المطرح، و"مصدقا" حال مؤكدة؛ لأنه لا تكون إلا كذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      والظاهر أن "ما" بمعنى الذي، وأن "مصدقا" حال من عائد الموصول، وأن اللام في "لما" مقوية لتعدية "مصدقا" لـ"ما" الموصولة بالظرف.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: أول كافر به "أول" خبر "كان" قبله، وفيه أربعة أقوال، أحدها وهو مذهب سيبويه أنه أفعل، وأن فاءه وعينه واو، وتأنيثه أولى، وأصلها: وولى، فأبدلت الواو همزة وجوبا، وليست مثل "ووري" في عدم قلبها لسكون الواو بعدها؛ لأن واو "أولى" تحركت في الجمع في قولهم "أول"، فحمل المفرد على الجمع في ذلك، ولم يتصرف من "أول" فعل لاستثقاله، وقيل: هو من وأل إذا نجا، ففاؤه واو وعينه همزة، وأصله أوأل، فخففت بأن قلبت الهمزة واوا، وأدغم فيها الواو فصار: أول، وهذا ليس بقياس تخفيفه، بل قياسه أن تلقى حركة الهمزة على الواو الساكنة [ ص: 317 ] وتحذف الهمزة، ولكنهم شبهوه بخطية وبرية، وهو ضعيف، والجمع: أوائل وأوالي - أيضا - على القلب.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: هو من آل يؤول إذا رجع، وأصله: أأول بهمزتين الأولى زائدة والثانية فاؤه، ثم قلب فأخرت الفاء بعد العين فصار: أوأل بوزن أعفل، ثم فعل به ما فعل في الوجه الذي قبله من القلب والإدغام وهو أضعف منه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: هو وول بوزن فوعل، فأبدلت الواو الأولى همزة، وهذا القول أضعفها؛ لأنه كان ينبغي أن ينصرف ليس إلا.

                                                                                                                                                                                                                                      والجمع: أوائل، والأصل: وواول، فقلبت الأولى همزة لما تقدم، والثالثة - أيضا - لوقوعها بعد ألف الجمع.

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن "أول" أفعل تفضيل، وأفعل التفضيل إذا أضيف إلى نكرة كان مفردا مذكرا مطلقا.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم النكرة المضاف إليها أفعل: إما أن تكون جامدة أو مشتقة، فإن كانت جامدة طابقت ما قبلها نحو: الزيدان أفضل رجلين، الزيدون أفضل رجال، الهندات أفضل نسوة، وأجاز المبرد إفرادها مطلقا ورد عليه النحويون.

                                                                                                                                                                                                                                      وإن كانت مشتقة فالجمهور - أيضا - على وجوب المطابقة نحو: "الزيدون أفضل ذاهبين وأكرم قادمين"، وأجاز بعضهم المطابقة وعدمها، أنشد الفراء:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 318 ]

                                                                                                                                                                                                                                      407 - وإذا هم طعموا فألأم طاعم     وإذا هم جاعوا فشر جياع



                                                                                                                                                                                                                                      فأفرد في الأول وطابق في الثاني.

                                                                                                                                                                                                                                      ومنه عندهم: ولا تكونوا أول كافر به .

                                                                                                                                                                                                                                      إذا تقرر هذا فكان ينبغي على قول الجمهور أن يجمع "كافر"، فأجابوا عن ذلك بأوجه: أجودها: أن أفعل في الآية وفي البيت مضاف لاسم مفرد مفهم للجمع، حذف وبقيت صفته قائمة مقامه، فجاءت النكرة المضاف إليها أفعل مفردة اعتبارا بذلك الموصوف المحذوف، والتقدير: ولا تكونوا أول فريق أو فوج كافر، وكذا: فألأم فريق طاعم، وقيل: لأنه في تأويل: أول من كفر به، وقيل: لأنه في معنى: لا يكن كل واحد منكم أول كافر، كقولك: كسانا حلة أي: كل واحد منا، ولا مفهوم لهذه الصفة هنا فلا يراد: ولا تكونوا أول كافر بل آخر كافر.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما اعتقد بعضهم أن لها مفهوما احتاج إلى تأويل جعل "أول" زائدا، قال: تقديره ولا تكونوا كافرين به، وهذا ليس بشيء، وقدره بعضهم بأن ثم معطوفا محذوفا تقديره: ولا تكونوا أول كافر به ولا آخر كافر، ونص على الأول؛ لأنه أفحش للابتداء به، وهو نظير قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      408 - من أناس ليس في أخلاقهم عاجل     الفحش ولا سوء الجزع



                                                                                                                                                                                                                                      لا يريد أن فيهم فحشا آجلا، بل يريد لا فحش عندهم لا عاجلا ولا آجلا.

                                                                                                                                                                                                                                      والهاء في "به" تعود على "ما أنزلت" وهو الظاهر، وقيل: على "ما معكم" وقيل: على الرسول عليه السلام لأن التنزيل يستدعي منزلا إليه، وقيل: على النعمة ذهابا بها إلى معنى الإحسان.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 319 ] قوله: بآياتي ثمنا قليلا متعلق بالاشتراء قبله، وضمن الاشتراء معنى الاستبدال، فلذلك دخلت الباء على الآيات، وكان القياس دخولها على ما هو ثمن لأن الثمن في البيع حقيقته أن يشترى به لا أن يشتري لكن لما دخل الكلام معنى الاستبدال جاز ذلك؛ لأن معنى الاستبدال أن يكون المنصوب فيه حاصلا والمجرور بالباء زائلا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ظن بعضهم أن "بدلت الدرهم بالدينار" وكذا "أبدلت" - أيضا - أن الدينار هو الحاصل والدرهم هو الزائل، وهو وهم، ومن مجيء اشترى بمعنى استبدل قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      409 - كما اشترى المسلم إذا تنصرا



                                                                                                                                                                                                                                      وقول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      410 - فإن تزعميني كنت أجهل فيكم     فإني شريت الحلم بعدك بالجهل



                                                                                                                                                                                                                                      وقال المهدوي: "دخول الباء على الآيات كدخولها على الثمن، وكذلك كل ما لا عين فيه، وإذا كان في الكلام دراهم أو دنانير دخلت الباء [ ص: 320 ] على الثمن قاله الفراء." انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      يعني أنه إذا لم يكن في الكلام درهم ولا دينار صح أن يكون كل من العوضين ثمنا ومثمنا، لكن يختلف [ذلك] بالنسبة إلى المتعاقدين، فمن نسب الشراء إلى نفسه أدخل الباء على ما خرج منه وزال عنه ونصب ما حصل له، فتقول: اشتريت هذا الثوب بهذا العبد، وأما إذا كان ثم دراهم أو دنانير كان ثمنا ليس إلا، نحو: اشتريت الثوب بالدرهم، ولا تقول: اشتريت الدرهم بالثوب.

                                                                                                                                                                                                                                      وقدر بعضهم [مضافا] فقال: بتعليم آياتي؛ لأن الآيات نفسها لا يشترى بها، ولا حاجة إلى ذلك؛ لأن معناه الاستبدال كما تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      و"ثمنا" مفعول به، و"قليلا" صفته.

                                                                                                                                                                                                                                      و وإياي فاتقون كقوله وإياي فارهبون .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال هنا: [فاتقون، وهناك فارهبون لأن ترك المأمور به هناك معصية وهي ترك ذكر النعمة والإيفاء بالعهد، وهنا] ترك الإيمان بالمنزل والاشتراء به ثمنا قليلا كفر، فناسب ذكر الرهب هناك؛ لأنه أخف يجوز العفو عنه لكونه معصية، وذكر التقوى هنا؛ لأنه كفر لا يجوز العفو عنه؛ لأن التقوى اتخاذ الوقاية لما هو كائن لا بد منه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية