الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أترون قبلتي هاهنا فوالله ما يخفى علي خشوعكم ولا ركوعكم إني لأراكم من وراء ظهري

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          401 401 - ( مالك عن أبي الزناد ) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أترون ) بفتح التاء والاستفهام إنكاري أي أتظنون ( قبلتي ) أي مقابلتي ومواجهتي ( هاهنا ) فقط لأن من استقبل شيئا استدبر ما وراءه ، فبين أن رؤيته لا تختص بجهة واحدة ( فوالله ما يخفى علي خشوعكم ) أي في جميع الأركان ، ويحتمل أن يريد به السجود لأن فيه غاية الخشوع ، وصرح بالسجود في رواية لمسلم قاله الحافظ وغيره وعلى الأول فقوله : ( ولا ركوعكم ) من الأخص بعد الأعم إما لأن التقصير [ ص: 576 ] فيه كان أكثر أو لأنه أعظم الأركان من حيث إن المسبوق يدرك الركعة بتمامها بإدراك الركوع ( إني لأراكم ) بفتح الهمزة بدل من جواب القسم وهو ما يخفى أو بيان له ( من وراء ظهري ) رؤية حقيقية اختص بها عليكم وهو تنبيه لهم على الخشوع في الصلاة لأنه قال لهم لما رآهم يلتفتون وهو مناف لكمال الصلاة ، فيكون مستحبا لا واجبا لأنه لم يأمرهم بالإعادة .

                                                                                                          وحكى النووي الإجماع على عدم وجوبه وتعقب بأن في الزهد لابن المبارك عن عمار بن ياسر : لا يكتب للرجل من صلاته ما سها عنه .

                                                                                                          وفي كلام غير واحد ما يقتضي وجوبه ، ثم الخشوع تارة يكون من فعل القلب كالخشية وتارة من فعل البدن كالسكون ، وقيل : لا بد من اعتبارهما ، حكاه الرازي في تفسيره ، وقال غيره : هو معنى يقوم بالنفس يظهر عنه سكون في الأطراف يلائم مقصود العبادة ، ويدل على أنه من عمل القلب حديث علي : " الخشوع في القلب " أخرجه الحاكم .

                                                                                                          وأما حديث : " لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه " فأشار إلى أن الظاهر عنوان الباطن ، قال الحافظ : اختلف في معنى الرؤية فقيل : المراد بها العلم إما بأن يوحى إليه كيفية فعلهم وإما بأن يلهم ، وفيه نظر لأنه لو أريد العلم لم يقيده بقوله من وراء ظهري ، وقيل : المراد أنه يرى من عن يمينه ومن عن يساره ممن تدركه عينه مع التفات يسير نادر أو يوصف من هناك بأنه وراء ظهره ، وهذا ظاهر التكلف وفيه عدول عن الظاهر بلا دليل ، والصواب المختار أنه محمول على ظاهره ، وأن هذا الإبصار إدراك حقيقي خاص به انخرقت له فيه العادة ، وعلى هذا حمل البخاري فأخرج الحديث في علامات النبوة ، وكذا نقل عن الإمام أحمد وغيره ، ثم ذلك الإدراك يجوز أن يكون برؤية عين انخرقت له العادة فيه فكان يرى من غير مقابلة لأن الحق عند أهل السنة أن الرؤية لا يشترط لها عقلا عضو مخصوص ولا مقابلة ولا قرب ، وإنما تلك أمور عادية يجوز حصول الإدراك مع عدمها عقلا ، ولذلك حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة خلافا لأهل البدع لوقوفهم مع العادة ، وقيل : كانت له عين خلف ظهره يرى بها من وراءه دائما ، وقيل : كان بين كتفيه عينان مثل سم الخياط يبصر بهما لا يحجبهما ثوب ولا غيره ، وقيل : بل كانت صورهم تنطبع في حائط قبلته كما تنطبع في المرآة فترى أمثلتهم فيها فيشاهد أفعالهم ، وظاهر الحديث أن ذلك يختص بحالة الصلاة ، ويحتمل أن يكون ذلك واقعا في جميع أحواله وقد نقل ذلك عن مجاهد ، وحكى بقي بن مخلد أنه صلى الله عليه وسلم كان يبصر في الظلمة كما يبصر في الضوء انتهى .

                                                                                                          وتعقب تخصيصه بالصلاة بأن جمعا من المتقدمين صرح بالعموم وعللوه بأنه كان يبصر من خلفه لأنه كان يرى من كل جهة .

                                                                                                          وقال ابن عبد البر : دفعت طائفة من أهل الزيغ هذا قالوا : كيف يقبل مع قوله صلى الله عليه وسلم : " أيكم الذي ركع دون الصف " فقال أبو بكرة : أنا ، فقال : " زادك الله حرصا ولا تعد " وسمع صلى الله عليه وسلم [ ص: 577 ] الذي انتهى إلى الصف فقال : الحمد لله حمدا كثيرا مباركا فيه ، فقال : " من المتكلم ؟ " الحديث ، إذ لو كان يرى ما سأل .

                                                                                                          والجواب أن فضائله - صلى الله عليه وسلم - كانت تزيد في كل وقت ، ألا ترى أنه قال : " كنت عبدا قبل أن أكون نبيا ، وكنت نبيا قبل أن أكون رسولا " وقال : " لا يقولن أحدكم إني خير من يونس " .

                                                                                                          وقيل له : يا خير البرية ، قال : " ذاك إبراهيم " حتى نزل : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ( سورة الفتح : الآية 2 ) ولم يغفر لأحد قبله ما تأخر من ذنبه ، قال : " أنا سيد ولد آدم ولا فخر " .

                                                                                                          وفي أبي داود ، عن معاوية ما يدل على أن ذلك كان في آخر عمره .

                                                                                                          والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ، ومسلم عن قتيبة بن سعيد كليهما ، عن مالك به إلا أن لفظ مسلم : " فوالله ما يخفى علي ركوعكم ولا سجودكم " .




                                                                                                          الخدمات العلمية