الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 208 ] وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن " شرب النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا " - يعني تنفس ثلاثا - فلو شرب أحد مرة هل يكون حراما ؟ وهل ورد أنه لم يشرب مرة فقط ؟ وقد جاء في بعض الكتب العشرة " أنه شرب مرة واحدة " وقد كتب في هذا فتيا وقالوا : إذا شرب مرة حرام ; ولم يسمع أحد من أهل العلم هذا القول وقد ورد الحديث أيضا : " أنه شرب صلى الله عليه وسلم قائما " فهل هذا للتنزيه ؟ أو للتحريم ؟ وهل إذا شرب من غير عذر قائما عليه إثم ؟ وهل إذا شرب مرة واحدة هل يكون حراما ؟

                التالي السابق


                فأجاب : الحمد لله . الأفضل أن يتنفس في الشرب ثلاثا ويكون نفسه في غير الإناء ; فإن التنفس في الإناء منهي عنه وإن لم يتنفس وشرب بنفس واحد جاز ; فإن في الصحيح عن أنس . { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتنفس في الإناء ثلاثا } وفي رواية لمسلم : { كان يتنفس في الشراب ثلاثا يقول : إنه أروى وأمرى } . فهذا دليل على استحباب التنفس ثلاثا .

                وفي الصحيح عن أبي قتادة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا شرب أحدكم [ ص: 209 ] فلا يتنفس في الإناء } فهذا فيه النهي عن التنفس في الإناء .

                وعن أبي سعيد الخدري : { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التنفس في الشراب فقال الرجل : القذاة أراها في الإناء ؟ فقال : أهرقها قال : فإني لا أروى عن نفس واحد : قال : فأبن القدح عن فيك } رواه الترمذي وصححه . فلم ينه النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب بنفس واحد ; ولكن لما قال له الرجل : إني لا أروى من نفس واحد قال : { أبن القدح عن فيك } أي لتتنفس إذا احتجت إلى النفس خارج الإناء . وفيه دليل على أنه لو روي في نفس واحد ولم يحتج إلى النفس جاز . وما علمت أحدا من الأئمة أوجب التنفس وحرم الشرب بنفس واحد . وفعله صلى الله عليه وسلم يدل على الاستحباب كما كان { يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله } ولو بدأ في الطهارة بمياسره قبل ميامنه كان تاركا للاختيار وكان وضوءه صحيحا من غير نزاع أعلمه بين الأئمة . وأما " الشرب قائما " فقد جاءت أحاديث صحيحة بالنهي وأحاديث صحيحة بالرخصة ; ولهذا تنازع العلماء فيه وذكر فيه روايتان عن أحمد ; ولكن الجمع بين الأحاديث أن تحمل الرخصة على حال العذر . فأحاديث النهي مثلها في الصحيح " { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائما } وفيه [ ص: 210 ] عن قتادة عن أنس : { أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن الشرب قائما } قال قتادة : فقلنا : الأكل ؟ فقال : ذاك شر وأخبث .

                وأحاديث " الرخصة " مثل حديث ما في الصحيحين عن علي وابن عباس قال : { شرب النبي صلى الله عليه وسلم قائما من زمزم } وفي البخاري عن علي : أن عليا في رحبة الكوفة شرب وهو قائم . ثم قال : إن ناسا يكرهون الشرب قائما وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت .

                وحديث علي هذا قد روي فيه أثر أنه كان ذلك من زمزم كما جاء في حديث ابن عباس هذا كان في الحج والناس هناك يطوفون ويشربون من زمزم ويستقون ويسألونه ولم يكن موضع قعود مع أن هذا كان قبل موته بقليل فيكون هذا ونحوه مستثنى من ذلك النهي وهذا جار عن أحوال الشريعة : أن المنهي عنه يباح عند الحاجة ; بل ما هو أشد من هذا يباح عند الحاجة ; بل المحرمات التي حرم أكلها وشربها كالميتة والدم تباح للضرورة . وأما ما حرم مباشرته طاهرا - كالذهب والحرير - فيباح للحاجة وهذا النهي عن صفة في الأكل والشرب : فهذا دون النهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة وعن لباس الذهب والحرير ; إذ ذاك قد جاء فيه وعيد ومع هذا فهو مباح للحاجة : فهذا أولى . والله أعلم .




                الخدمات العلمية