الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وتنازع العلماء فيما إذا حلف بالله أو الطلاق أو الظهار أو الحرام أو النذر أنه لا يفعل شيئا ففعله ناسيا ليمينه أو جاهلا بأنه المحلوف عليه : فهل يحنث كقول أبي حنيفة ومالك وأحمد وأحد القولين للشافعي وإحدى الروايات عن أحمد ؟ أولا يحنث بحال كقول المكيين والقول الآخر للشافعي والرواية الثانية عن أحمد ؟ أو يفرق بين اليمين بالطلاق والعتاق وغيرهما كالرواية الثالثة عن أحمد وهو اختيار القاضي والخرقي وغيرهما من أصحاب أحمد والقفال من أصحاب الشافعي ؟ وكذلك لو اعتقد أن امرأته بانت بفعل المحلوف عليه ثم تبين له أنها لم تبن ؟ فقيه قولان .

                وكذلك إذا حلف بالطلاق أو غيره على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه ؟ ففيه ثلاثة أقوال كما ذكر ولو حلف على شيء يشك فيه ثم تبين صدقه ؟ ففيه قولان . عند مالك يقع وعند الأكثرين لا يقع وهو المشهور من مذهب أحمد .

                والمنصوص عنه في رواية حرب التوقف في المسألة فيخرج على وجهين كما إذا حلف ليفعلن اليوم كذا ومضى اليوم أو شك في فعله هل يحنث ؟ على وجهين .

                واتفقوا على أنه يرجع في اليمين إلى نية الحالف إذا احتملها لفظه ولم يخالف الظاهر أو خالفه وكان مظلوما .

                وتنازعوا هل يرجع إلى سبب [ ص: 87 ] اليمين وسياقها وما هيجها ؟ على قولين : فمذهب المدنيين كمالك وأحمد وغيره أنه يرجع إلى ذلك والمعروف في مذهب أبي حنيفة والشافعي أنه لا يرجع لكن في مسائلهما ما يقتضي خلاف ذلك .

                وإن كان السبب أعم من اليمين عمل به عند من يرى السبب . وإن كان خاصا : فهل يقصر اليمين عليه ؟ فيه قولان في مذهب أحمد وغيره . وإن حلف على معين يعتقده على صفة فتبين بخلافها ؟ ففيه أيضا قولان .

                وكذلك لو طلق امرأته بصفة ; ثم تبين بخلافها مثل أن يقول : أنت طالق إن دخلت الدار - بالفتح - أي لأجل دخولك الدار ; ولم تكن دخلت . فهل يقع به الطلاق ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره . وكذلك إذا قال : أنت طالق لأنك فعلت كذا ونحو ذلك ولم تكن فعلته ؟ ولو قيل له : امرأتك فعلت كذا ; فقال : هي طالق . ثم تبين أنهم كذبوا عليها ؟ ففيه قولان وتنازعوا في الطلاق المحرم : كالطلاق في الحيض ; وكجمع الثلاث عند الجمهور الذين يقولون إنه حرام ; ولكن الأربعة وجمهور العلماء يقولون : كونه حراما لا يمنع وقوعه كما أن الظهار محرم وإذا ظاهر ثبت حكم الظهار ; وكذلك " النذر " قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه نهى عنه } ومع هذا يجب عليه الوفاء به بالنص والإجماع .

                والذين قالوا لا يقع : اعتقدوا أن كل ما نهى الله عنه فإنه يقع فاسدا لا يترتب عليه حكم والجمهور فرقوا بين أن يكون الحكم يعمه لا يناسب فعل [ ص: 88 ] المحرم : كحل الأموال والإبضاع وإجزاء العبادات وبين أن يكون عبادة تناسب فعل المحرم كالإيجاب والتحريم ; فإن المنهي عن شيء إذا فعله قد تلزمه بفعله كفارة أو حد أو غير ذلك من العقوبات : فكذلك قد ينهى عن فعل شيء فإذا فعله لزمه به واجبات ومحرمات ; ولكن لا ينهى عن شيء إذا فعله أحلت له بسبب فعل المحرم الطيبات ; فبرئت ذمته من الواجبات ; فإن هذا من " باب الإكرام والإحسان " والمحرمات لا تكون سببا محضا للإكرام والإحسان ; بل هي سبب للعقوبات إذا لم يتقوا الله تبارك وتعالى .

                كما قال تعالى : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } وقال تعالى : { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } إلى قوله تبارك وتعالى : { ذلك جزيناهم ببغيهم } وكذلك ما ذكره تعالى في قصة البقرة من كثرة سؤالهم وتوقفهم عن امتثال أمره كان سببا لزيادة الإيجاب ومنه قوله تعالى { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } وحديث النبي صلى الله عليه وسلم { إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته } ولما { سألوه عن الحج : أفي كل عام ؟ قال : لا .

                ولو قلت : نعم لوجب ; ولو وجب لم تطيقوه ; ذروني ما تركتم ; فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ; فإذا نهيتم عن شيء فاجتنبوه .

                وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم
                } . ومن هنا قال طائفة من العلماء : إن الطلاق الثلاث حرمت به المرأة عقوبة للرجل حتى لا يطلق ; فإن الله يبغض الطلاق ; وإنما يأمر به الشياطين والسحرة كما قال تعالى في السحر : { فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه } وفي [ ص: 89 ] الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن الشيطان ينصب عرشه على البحر ; ويبعث جنوده فأقربهم إليه منزلة أعظمهم فتنة ; فيأتي أحدهم فيقول ما زلت به حتى شرب الخمر . فيقول الساعة يتوب ويأتي الآخر فيقول : ما زلت به حتى فرقت بينه وبين امرأته . فيقبله بين عينيه . ويقول : أنت أنت } .

                وقد روى أهل التفسير والحديث والفقه : أنهم كانوا في أول الإسلام يطلقون بغير عدد ; يطلق الرجل المرأة ثم يدعها حتى إذا شارفت انقضاء العدة راجعها ثم طلقها ضرارا فقصرهم الله على الطلقات الثلاث ; لأن الثلاث أول حد الكثرة وآخر حد القلة . ولولا أن الحاجة داعية إلى الطلاق لكان الدليل يقتضي تحريمه كما دلت عليه الآثار والأصول ; ولكن الله تعالى أباحه رحمة منه بعباده لحاجتهم إليه أحيانا . وحرمه في مواضع باتفاق العلماء . كما إذا طلقها في الحيض ولم تكن سألته الطلاق ; فإن هذا الطلاق حرام باتفاق العلماء . والله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بأفضل الشرائع وهي الحنيفية السمحة كما قال : { أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة } فأباح لعباده المؤمنين الوطء بالنكاح . والوطء بملك اليمين . واليهود والنصارى لا يطئون إلا بالنكاح ; لا يطئون بملك اليمين .

                و " أصل ابتداء الرق " إنما يقع من السبي . والغنائم لم تحل إلا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الحديث الصحيح أنه قال : { فضلنا على الأنبياء بخمس : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة [ ص: 90 ] وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلنا وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة وأعطيت الشفاعة } فأباح سبحانه للمؤمنين أن ينكحوا وأن يطلقوا وأن يتزوجوا المرأة المطلقة بعد أن تتزوج بغير زوجها . " والنصارى " يحرمون النكاح على بعضهم ومن أباحوا له النكاح لم يبيحوا له الطلاق . " واليهود " يبيحون الطلاق ; لكن إذا تزوجت المطلقة بغير زوجها حرمت عليه عندهم . والنصارى لا طلاق عندهم . واليهود لا مراجعة بعد أن تتزوج غيره عندهم . والله تعالى أباح للمؤمنين هذا وهذا .

                ولو أبيح الطلاق بغير عدد - كما كان في أول الأمر - لكان الناس يطلقون دائما : إذا لم يكن أمر يزجرهم عن الطلاق ; وفي ذلك من الضرر والفساد ما أوجب حرمة ذلك ولم يكن فساد الطلاق لمجرد حق المرأة فقط : كالطلاق في الحيض حتى يباح دائما بسؤالها ; بل نفس الطلاق إذا لم تدع إليه حاجة منهي عنه باتفاق العلماء : إما نهي تحريم أو نهي تنزيه .

                وما كان مباحا للحاجة قدر بقدر الحاجة . والثلاث هي مقدار ما أبيح للحاجة ; كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام } وكما قال : { لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ; إلا على زوج [ ص: 91 ] فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا } وكما رخص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا .

                وهذه الأحاديث في الصحيح . وهذا مما احتج به من لا يرى وقوع الطلاق إلا من القصد ; ولا يرى وقوع طلاق المكره ; كما لا يكفر من تكلم بالكفر مكرها بالنص والإجماع ; ولو تكلم بالكفر مستهزئا بآيات الله وبالله ورسوله كفر ; كذلك من تكلم بالطلاق هازلا وقع به .

                ولو حلف بالكفر فقال : إن فعل كذا فهو بريء من الله ورسوله ; أو فهو يهودي أو نصراني . لم يكفر بفعل المحلوف عليه ; وإن كان هذا حكما معلقا بشرط في اللفظ ; لأن مقصوده الحلف به بغضا له ونفورا عنه ; لا إرادة له ; بخلاف من قال : إن أعطيتموني ألفا كفرت فإن هذا يكفر .

                وهكذا يقول من يفرق بين الحلف بالطلاق وتعليقه بشرط لا يقصد كونه وبين الطلاق المقصود عند وقوع الشرط .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية