الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3006 [ 1694 ] عن جابر قال: جاء عبد فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الهجرة ولم يشعر أنه عبد، فجاء سيده يريده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " بعنيه". فاشتراه بعبدين أسودين، ثم لم يبايع أحدا بعد، حتى يسأله: "أعبد هو؟ ".

                                                                                              رواه أحمد (3 \ 349)، ومسلم (1602)، وأبو داود (3358)، والترمذي (1239)، والنسائي (7 \ 150).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و (قوله: جاء عبد فبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة، ولم يشعر: أنه عبد ) فيه دليل: على أن الأصل في الناس الحرية، ولذلك لم يسأله؛ إذ حمله على ذلك [ ص: 511 ] الأصل، حيث لم يظهر له ما يخرجه عن ذلك. ولو لم يكن الأمر كذلك لتعين أن يسأله. وهذا أصل مالك في هذا الباب. فكل من ادعى ملك أحد من بني آدم كان مدفوعا إلى بيان ذلك، لكن إذا ناكره المدعي رقه، وادعى الحرية، وسواء كان ذلك المدعى رقه ممن كثر ملك نوعه، أو لم يكن. فإن كان في حوز المدعي لرقه كان القول قوله؛ إذا كان حوز رق، فإن لم يكن فالقول قول المدعى عليه مع يمينه.

                                                                                              و (قوله: فجاء سيده يريده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعنيه" ) لم يرد في شيء من طرقه: أنه صلى الله عليه وسلم طالب سيده بإقامة بينة. فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم صحة ملكه له حين عرف سيده. ويحتمل أن يكون اكتفى بدعواه، وتصديق العبد له. فإن العبد بالغ عاقل، يقبل إقراره على نفسه. ولم يكن للسيد من ينازعه، ولا يستحلف السيد، كما إذا ادعى اللقطة وعرف عفاصها، ووكاءها، أخذها ولم يستحلف لعدم المنازع فيها.

                                                                                              و (قوله: فاشتراه منه بعبدين ) هذا إنما فعله النبي صلى الله عليه وسلم على مقتضى مكارم أخلاقه، ورغبة في تحصيل ثواب العتق، وكراهية أن يفسخ له عقد الهجرة. فحصل له العتق، وثبت له الولاء. فهذا المعتق مولى للنبي صلى الله عليه وسلم غير أنه لا يعرف اسمه.

                                                                                              وفيه دليل على جواز بيع الحيوان بالحيوان متفاضلا نقدا. وهذا لا يختلف فيه. وكذلك في سائر الأشياء ما عدا ما يحرم التفاضل في نقده من الربويات على ما قدمناه.

                                                                                              وأما بيع ذلك بالنسيئة ففيه تفصيل وخلاف نذكره. فذهب الكوفيون إلى منع ذلك في الحيوان. فلا يجوز عندهم فرس بفرسين. ولا شاة بشاتين مطلقا إلى أجل، اختلفت صفاتها أو اتفقت؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة. [ ص: 512 ] خرجه البزار من حديث ابن عباس .

                                                                                              والترمذي من حديث الحسن ، عن سمرة . وقال: إنه حسن صحيح.

                                                                                              قلت: ويلزمهم على هذا: ألا يجيزوا بيع الحيوان بمثله، ولا بخلافه. فلا يجيزون بيع شاة بشاة، ولا بفرس إلى أجل. ويلزمهم عليه ألا يجيزوا فيه القرض، وكل ذلك معلوم البطلان من الشرع. ويدل على خلاف ما قالوه ما روي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي : أنه صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ البعير بالبعيرين إلى الصدقة. ومنع مالك ذلك في الجنس الواحد. والجنسية المعتبرة عنده هي اتفاق الأغراض والمنافع، دون الخلق والألوان، مخافة الوقوع في سلف يجر نفعا. فإذا تباينت المقاصد، واختلفت المنافع؛ جاز ذلك. فيجوز عنده حمار فاره في حمارين من حواشي الحمر إلى أجل، ونقدا. ولا يجوز في مثليه إلى أجل؛ لأنه سلف جر نفعا. وكذلك في الثياب وسائر العروض. وقد روي نحو ذلك عن علي ، وابن عمر ، والزهري . وأجاز الشافعي ذلك كله مع الاتفاق والاختلاف. وتابعه على ذلك الثوري ، وأبو ثور . وروي عن ابن عباس مثله لحديث عبد الله بن عمرو المتقدم. ولم يروا: أنه يلزم منه ما حذره مالك . وقد انفصلت المالكية عن حديث عبد الله بن عمرو بأنه محمول على مختلفي الجنسين بحسب اختلاف الأسنان والمقاصد، بدليل قوله فيه: أمره أن يأخذ في قلائص الصدقة البعير بالبعيرين. فلو كان البعير المأخوذ [ ص: 513 ] ناجزا من جنس البعيرين المأخوذين إلى أجل لكان هذا السلف الجار نفعا المتفق على منعه؛ لأنه لم يقترن به صيغة بيع، ولا شيء يدل عليه. فالصورة صورة القرض، ولا مفرق بينها وبين البيع فيمنع، فلا بد أن يقدر فيها اختلاف الجنسين.

                                                                                              وبهذا التأويل يصح الجمع بين الأحاديث؛ أعني: بين هذا الحديث، وبين النهي عن سلف جر نفعا. والجمع أولى من الترجيح. فإن لم يقبل هذا التأويل؛ فالقضية محتملة، مترددة بين أن يكون البعير من جنس البعيرين، أو من غير جنسهما على حد سواء. فالتحق بالمجملات، فلا يكون فيه حجة لهم. ونبقى نحن متمسكين بالقاعدة الكلية؛ التي هي: حماية المحرمات، والله تعالى أعلم.

                                                                                              و (قوله: فلم يبايع أحدا بعد حتى يسأله: أعبد هو؟ ) يعني: أنه لما وقعت له هذه الواقعة أخذ بالحزم والحذر، فكان يسأل من يرتاب فيه. وفيه من الفقه: الأخذ بالأحوط.




                                                                                              الخدمات العلمية