الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  صفحة جزء
                                                                  9017 عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة ، يزيد أحدهما على الآخر ، عن سعيد بن جبير قال : سلوني يا معشر الشباب ، فإني أوشكت أن أذهب من بين أظهركم ، فأكثر الناس مسألته ، فقال له رجل : أصلحك الله ، أرأيت المقام هو كما كنا نتحدث ؟ قال : ماذا كنت تتحدث ؟ قال : كنا نقول : إن إبراهيم عليه السلام حين جاء عرضت عليه أم إسماعيل النزول فأبى فجاءت بهذا الحجر فقال : ليس كذلك ، قال سعيد : قال ابن عباس : أول ما اتخذت النساء المنطق من قبل أم إسماعيل ، اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة ، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت ، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد ، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء ، فوضعهما هنالك ، ووضع عندهما جرابا فيه تمر ، وسقاء فيه ماء ، ثم قفى إبراهيم منطلقا ، فتبعته أم إسماعيل ، فقالت : يا إبراهيم ، أين تذهب وتتركنا بهذا الموضع ؟ ليس [ ص: 106 ] فيه إنس ولا شيء ، فقالت له ذلك مرارا ، وهو لا يلتفت إليها ، فقالت له : آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم قالت : إذا لا يضيعنا ، ثم رجعت ، فانطلق إبراهيم عليه السلام حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه ، استقبل بوجهه البيت ، ثم دعا بهذه الدعوات : ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم حتى يشكرون وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل ، وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء ، عطشت وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلوى ، - أو قال : يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل يليها ، فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا ، فلم تر أحدا ، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي ، رفعت طرف درعها ، وسعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة ، فقامت عليها ، ونظرت هل ترى أحدا ، فلم تر أحدا ، ففعلت ذلك سبع مرات ، قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فلذلك سعى الناس بينهما " فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت : صه ، تريد نفسها ثم [ ص: 107 ] تسمعت ، فسمعت أيضا ، ثم قالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا بالملك عند موضع زمزم يبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء ، فجعلت تحوضه هكذا ، وتقول بيدها وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهي تغور بقدر ما تغرف ، قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم ، أو قال لم تغرف من الماء كانت زمزم عينا معينا " قال : فشربت وأرضعت ولدها ، فقال لها الملك : لا تخافوا الضيعة ، فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه ، [ و ] إن الله لا يضيع أهله ، وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول تأخذ عن يمينه وشماله ، فكانوا كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء ، فنزلوا بأسفل مكة ، فرأوا طائرا حائما فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء [ ص: 108 ] لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء ، فأرسلوا جريا أو جريين ، فإذا هم بالماء ، فرجعوا فأخبروهم بالماء ، وأم إسماعيل صلى الله عليه وسلم عند الماء فقالوا : تأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ قالت نعم ، ولكن لا حق لكم في الماء قالوا : نعم .

                                                                  قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس " ، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم ، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم ، وشب الغلام وتعلم العربية منهم أنفسهم ، وأعجبهم حين شب الغلام ، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم ، وماتت أم إسماعيل ، فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته ، فلم يجد إسماعيل ، فسأل امرأته عنه ، فقالت : خرج يبتغي لنا ، ثم سأل عن هيئتهم ، وعن عيشهم ، فقالت : نحن بشر في ضيق وشدة ، وشكت إليه قال : فإذا جاء زوجك فاقريه السلام ، وقولي له يغير عتبة بابه ، فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئا قال : فهل جاءكم من أحد ؟ قالت : نعم ، جاءنا شيخ كذا وكذا ، فسألنا عنك ، فأخبرته ، وسألنا عن عيشنا ، فأخبرته [ ص: 109 ] أنا في شدة وجهد قال : أبي أوصاك بشيء ؟ قالت : نعم ، أمرني أن أقرأ عليك السلام ، ويقول : غير عتبة بابك قال : ذلك أبي ، وقد أمرني أن أفارقك ، الحقي بأهلك ، فطلقها ، ثم تزوج أخرى ، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ، ثم أتاهم بعد ذلك ، فلم يجده ، فدخل على امرأته ، فسأل عنه قالت : خرج يبتغي لنا قال : كيف أنتم ؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم قالت : بخير ، ونحن في سعة ، وأثنت على الله قال : ما طعامكم ؟ قالت : اللحم قال : فما شرابكم ؟ قالت : الماء قال : اللهم بارك لهم في اللحم [ والماء ] ، قال النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ : " لم يكن حب ، ولو كان لهم حب دعا لهم فيه " قال : فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه مني السلام ، وأمريه أن يثبت عتبة بابه ، فلما جاء إسماعيل قال : هل أتاك أحد ؟ قالت : نعم أتانا شيخ حسن الهيئة ، وأثنت عليه ، وسألني عنك فأخبرته ، وسألني عن عيشنا فقلت : إنا بخير قال : هل أوصاك بشيء ؟ قالت : هو يقرأ عليك السلام ، ويقول لك أن تثبت عتبة دارك قال : [ ص: 110 ] ذلك أبي وأنت العتبة ، فأمرني أن أمسكك ، ثم لبث عنهم ما شاء الله ، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم ، فلما رآه قام ، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد ، ثم قال : يا إسماعيل ، إن الله يأمرني أن أبتني بيتا هاهنا ، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها يأتيها السيل من ناحيتها ، ولا يعلو عليها فقاما ، يحفران عن القواعد ، فعند ذلك رفع القواعد من البيت ، فجعل إبراهيم يأتي بالحجارة وإسماعيل يبني حتى إذا ارتفع البناء ، جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يبني ، وإسماعيل يناوله وهما يقولان : ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان : [ ص: 111 ] ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم . قال معمر : " وسمعت رجلا يقول : كان إبراهيم يأتيهم على البراق " قال : " وسمعت رجلا آخر يقول : بكيا حين التقيا حتى أجابتهم الطير " .

                                                                  قال معمر : إن عمر بن الخطاب قال لقريش : " إنه كان ولاة هذا البيت قبلكم طسم فتهاونوا به ، ولم يعظموا حرمته ، فأهلكهم الله ، ثم وليه بعدهم جرهم فتهاونوا فيه ، ولم يعظموا حرمته ، فأهلكهم الله فلا تهاونوا به وعظموا حرمته " .

                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية