الآية الثالثة :
قوله تعالى : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا } فيها سبع مسائل :
المسألة الأولى : في : قال سبب نزولها وغيره : قال ابن إسحاق أبو جهل : يا معشر قريش ، والله ما أرانا إلا قد أعذرنا في أمر هذا الرجل من بني عبد المطلب ، والله لئن أصبحت ، ثم صنع كما كان يصنع في صلاته ، لقد أخذت صخرة ، ثم رضخت رأسه فاسترحنا منه ، فامنعوني عند ذلك ، أو أسلموني . قالوا : يا أبا الحكم ، والله لا نسلمك أبدا .
فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك الليلة غدا إلى مصلاه الذي كان يصلي فيه ، وغدا أبو جهل معه حجر ، وقريش في أنديتهم ينظرون ما يصنع ، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قام إليه أبو جهل بذلك الحجر ، فلما دنا منه رجع منهزما منتفعا لونه ، كادت روحه تفارقه ، فقام إليه نفر من قريش ممن سمع ما قال تلك الليلة ، قالوا : يا أبا الحكم ، مالك ؟ فوالله لقد كنت مجدا في أمرك ، ثم رجعت بأسوإ هيئة رجع بها رجل ، وما رأينا دون محمد شيئا يمنعه منك . فقال : ويلكم ، والله لعرض دونه لي فحل من الإبل ، ما رأيت مثل هامته وأنيابه وقصرته لفحل قط ، يخطر دونه ، لو دنوت لأكلني .
فلما قالها أبو جهل قام النضر بن الحارث فقال : يا معشر قريش ، والله لقد نزل [ ص: 225 ] بساحتكم أمر ما أراكم ابتليتم به قبله ، قلتم لمحمد : شاعر ، والله ما هو بشاعر . وقلتم : كاهن ، والله ما هو بكاهن . وقلتم ساحر ، والله ما هو بساحر . وقلتم : مجنون ، والله ما هو بمجنون . والله لقد كان محمد أرضاكم فيكم : أصدقكم حديثا ، وأعظمكم أمانة ، وخيركم جوارا ، حتى بلغ من السن ما بلغ ، فأبصروا بصركم ، وانتبهوا لأمركم .
فقالت قريش : هل أنت يا نضر خارج إلى أحبار يهود بيثرب ، ونبعث معك رجلا ; فإنهم أهل الكتاب الأول ، والعلم بما أصبحنا نختلف نحن ومحمد فيه ، تسألهم ، ثم تأتينا عنهم بما يقولون ؟ قال : نعم . فخرجوا ، وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط ، فقدما على أحبار اليهود ، فوصفا لهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدعوهم إليه ، وخلافهم إياه ، فقالوا لهما : سلوه عن ثلاث خلال ، نأمركم بهن : سلوه عن فتية مضوا في الزمن الأول ، وقد كان لهم خبر ونبأ ، وحديث معجب ، وأخبروهم خبرهم . وسلوه عن رجل طواف قد بلغ من البلاد ما لم يبلغ غيره من مشارقها ومغاربها يقال له ذو القرنين ، وأخبروهم خبره . وسلوه عن الروح ما هو ؟ فإن أخبركم بهؤلاء الثلاث فالرجل نبي فاتبعوه ، وإن لم يفعل فالرجل كذاب ، فروا رأيكم .
فقدم النضر وعقبة على قريش مكة ، فقالا : قد أتيناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ، أمرتنا أحبار يهود أن نسأله عن ثلاثة أمور ، فإن أخبرنا بهن فهو نبي مرسل ، فاتبعوه ، وإن عجز عنها فالرجل كذاب .
فمشوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد ; أخبرنا عن ثلاثة أمور ، نسألك عنها ، فإن أخبرتنا عنها فأنت نبي . أخبرنا عن فتية مضوا في الزمن الأول ، كان لهم حديث معجب ، وعن رجل طواف بلغ من البلاد ما لم يبلغه غيره ، وعن الروح ما هو ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { غدا أخبركم عن ذلك } ولم يستثن ، فمكث عنه جبريل بضع عشرة ليلة ، ما يأتيه ، ولا يراه حتى أرجف به أهل مكة ، قالوا : إن محمدا وعدنا أن يخبرنا عما سألناه عنه غدا ، فهذه بضع عشرة ليلة ، فكبر على رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث جبريل عنه ، ثم جاءه بسورة الكهف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لقد احتبست عني [ ص: 226 ] يا جبريل حتى سؤت ظنا } فقال له جبريل : { وما نتنزل إلا بأمر ربك } . ثم قرأ سورة الكهف . فنزل في أمر الفتية : { أم حسبت أن أصحاب الكهف } إلى آخر القصة .
فقال حين فرغ من وصفهم ، وتبين له خبرهم : { فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا } . يقول لا منازعة ، ولا تبلغ بهم فيها جهد الخصومة ، ولا تستفت فيهم منهم أحدا ، لا اليهود الذين أمروهم أن يسألوك ، ولا الذين سألوا من قريش ، يقول : قد قصصنا عليك خبرهم على حقه وصدقه . ونزل في قوله : أخبركم به غدا قوله تعالى : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } فإنك لا تدري ما الله صانع في ذلك أيخبرهم عما يسألونك عنه ؟ أم يتركهم ؟ { واذكر ربك إذا نسيت } الآية . وجاءه : { ويسألونك عن الروح } الآية ، وزعموا أنه ناداهم الروح جبريل .
قال : وبلغنا { ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة قال له أحبار يهود : بلغنا يا محمد أن فيما تلوت حين سألك قومك عن الروح وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ، فإيانا أردت بها أم قومك ؟ فقال : كلا أريدكم بها } . قالوا : أوليس فيما تتلو : إنا أوتينا التوراة فيها بيان كل شيء ؟ قال : { بلى ، والتوراة في علم الله قليل ، وهي عندكم كثير مجزئ } فيذكرون والله أعلم أن هؤلاء الآيات نزلن عند ذلك : { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام } إلى آخر الآيات .
وقد روي في الصحيح أن اليهود سألوه عن الروح بالمدينة ، وقد تقدم ذلك من قبل . وهو أصح .