الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة الثانية : قوله تعالى : { ولا على أنفسكم }

                                                                                                                                                                                                              يعني ولا عليكم أيها الناس ، ولكن لما اجتمع مخاطب وغير مخاطب غلب المخاطب لينتظم الكلام . وكان المعنى يراد به جميع من ذكر : من الأعمى ، والأعرج ، والمريض ، وأصحاب البيوت . المسألة الثالثة : قوله تعالى : { من بيوتكم }

                                                                                                                                                                                                              فيه ثلاثة أقاويل : الأول : يعني من أموال عيالكم وأزواجكم ; لأنهم في بيته .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : من بيوت أولادكم ، ونسبت أولادهم إليهم لما جاء في الأثر : { أنت ومالك لأبيك } . ولذلك لم يذكر الله بيوت الأبناء حين ذكر بيوت الآباء والأقارب ، لدخولهم فيما تقدم من ذكر الأنفس ، كما قررناه .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : أن المراد به البيوت التي أهلوها وساكنوها خدمة لأصحابها . [ ص: 422 ]

                                                                                                                                                                                                              المسألة الرابعة : قوله تعالى { أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم }

                                                                                                                                                                                                              فأباح الأكل لهؤلاء من جهة النسب من غير استئذان في الأكل إذا كان الطعام مبذولا . فإن كان محرزا دونهم لم يكن لهم أخذه ، ولا يجوز أن يجاوزوا إلى الادخار ، ولا إلى ما ليس بمأكول ، وإن كان غير محرز عنهم إلا بإذن منهم ، وهي المسألة الخامسة .

                                                                                                                                                                                                              المسألة السادسة : قوله تعالى : { أو ما ملكتم مفاتحه } :

                                                                                                                                                                                                              فيه ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                                              أحدها : أنه عنى به وكيل الرجل على ضيعته ، وخازنه على ماله ; فيجوز له أن يأكل مما هو قيم عليه ; قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : أنه أراد به منزل الرجل نفسه ، يأكل مما ادخره فيه ، وهذا قول قتادة .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : أنه عنى به أكل السيد من منزل عبده وماله ; لأن مال العبد لسيده ; حكاه ابن عيسى .

                                                                                                                                                                                                              المسألة السابعة : قوله تعالى : { أو صديقكم } :

                                                                                                                                                                                                              فيه قولان : أحدهما : أن يأكل من بيت صديقه في وليمة أو غيرها إذا كان الطعام حاضرا غير محرز ; قاله ابن عباس . والأصدقاء أكثر من الآباء ; ألا ترى أن الجهنميين لم يستغيثوا بالآباء والأمهات ، وإنما قالوا : { فما لنا من شافعين ولا صديق حميم } .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثامنة : في تنقيح معاني الآية المذكورة في المسائل السبعة : وذلك يكون بنظم التأويل في الأقوال على سرد ، فيتبين المعنى المستقيم من غيره . [ ص: 423 ]

                                                                                                                                                                                                              أما إن قلنا بقول الحسن من أن نفي الحرج عن الثلاثة الأصناف الزمنى مقطوع عما قبله ، وأن قوله تعالى : { ولا على أنفسكم } كلام مستأنف .

                                                                                                                                                                                                              وأما قول من قال في الأول : إن الأنصار تحرجوا أن يأكلوا معهم ، فلو كان هذا صحيحا لكان المعنى : ليس على من أكل مع هؤلاء حرج ، فأما أن يتحرج غيرهم منهم ، وينفي الحرج عنهم فهو قلب للقول من غير ضرورة قل ولا رواية صحيحة في نقل .

                                                                                                                                                                                                              وأما القول الثاني فإنه كلام ينتظم ; لأن نفي الحرج عن أصحاب الزمانة وعمن سواهم أن يأكلوا من بيوت من سمى الله فهو كلام منتظم ، ولكن بقي وجه الفائدة في تخصيص أهل الزمانة بالذكر ، مع أن عموم قوله : { ليس عليكم جناح أن تأكلوا } يكفي في تخصيصهم ، فيحتمل أن يكون وجهه أنه بدأ بهم ; لأنهم رأوا أنهم بضرارتهم أحق من الأصحاء بالمواساة والمشاركة .

                                                                                                                                                                                                              وأما رواية مالك عن ابن المسيب فهو أيضا كلام منتظم ، لأجل تخلفهم عنهم في الجهاد ، وبقاء أموالهم بأيديهم ، لكن قوله : { أو ما ملكتم مفاتحه } قد اقتضاه وأفاده ، فأي معنى لتكراره ، فكأن هذا القول بعيد جدا .

                                                                                                                                                                                                              وأما القول بأنه بيان لقوله : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } فينتظم معنى ، لكن ذكر الزمانة غير مختص به ولا منتظم معه .

                                                                                                                                                                                                              وأما القول الخامس في أكل الأصحاء مع الزمنى فذلك مدخول بما دخل به القول الأول ، من أن نظام الكلام في نفي الحرج عن الناس في الزمنى عن الزمنى فيهم .

                                                                                                                                                                                                              وأما السادس فحسن جدا ، وكذلك السابع مثله لو عضدته صحة النقل .

                                                                                                                                                                                                              المسألة التاسعة : في المختار : وذلك أن يقال : إن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر ، وعن الأعرج فيما يشترط في التكليف به المشي ، وما يتعذر من الأفعال مع وجود الحرج ، وعن المريض فيما يتعلق بالتكليف الذي يؤثر المرض في إسقاطه كالصوم ، وشروط الصلاة ، وأركانها ، والجهاد ، ونحو ذلك . [ ص: 424 ] ثم قال تعالى بعد ذلك مبينا : وليس عليكم حرج في أن تأكلوا من بيوتكم فهذا معنى صحيح ، وتفسير مفيد ، لا يفتقر في تفسير الآية إلى نقل ، ويعضده الشرع والعقل ; فأما الأكل من مال الأزواج فذلك جائز للزوجة فيما ليس بمحجوب عنها ، ولا محرز منها .

                                                                                                                                                                                                              قال النبي صلى الله عليه وسلم : { إذا أنفقت المرأة من مال زوجها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ، وللزوج مثل ذلك } .

                                                                                                                                                                                                              وأما ما كان محرزا عنها فلا سبيل لها إليه ، وكذلك الزوج يأكل من مال زوجه غير مفسد ، لكن الزوجة أبسط ، لما لها من حق النفقة ، ولما يلزمها من خدمة المنفعة .

                                                                                                                                                                                                              وأما بيت الابن فقد تقدم أنه كبيت المرء نفسه ، لكن كما بيناه فيما كان غير محرز ، فلا يتبسط الأب على الابن في هتك حرز وأخذ مال ; وإنما يأكله مسترسلا فيما لم يقع فيه حيازة ، ولكن بالمعروف دون فساد ولا استغنام

                                                                                                                                                                                                              وأما بيت الأب للابن فمثله ، ولكن تبسط الابن أقل من تبسط الأب ، كما كان تبسط الزوج أقل من تبسط الزوجة .

                                                                                                                                                                                                              وأما بيوت سائر القرابة الذين ذكروا في الآية فلا يلحق بذلك ولا سبيل إليه . وأما بيت ملكتم مفاتحه فهو الوكيل قال النبي : { الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر كاملا موفرا طيبة به نفسه أحد المتصدقين } . ولا بد للخازن من أن يأكل مما يخزن إجماعا ، وهذا إذا لم تكن له أجرة ، فإن استأجره على الخزن حرم الأكل .

                                                                                                                                                                                                              وأما مال العبد فيدخل في قوله : ( بيوتكم ) لأن العبد وماله ملك للسيد .

                                                                                                                                                                                                              وأما من قال : إنه منزل الرجل نفسه فخطأ محض ; لأن ذلك قد أفاده قوله : ( بيوتكم ) ، كما بينا أن بيت الابن يدخل فيه ; فبيت العبد أولى وأحرى بإجماع . [ ص: 425 ]

                                                                                                                                                                                                              وأما بيت الصديق ، فإنه إذا استحكمت الأخوة جرى التبسط عادة ، وفي المثل : أيهم أحب إليك أخوك أم صديقك ؟ قال : أخي إذا كان صديقي .

                                                                                                                                                                                                              قال لنا الإمام العادل أبو الفضل بن طوق قال لنا جمال الإسلام أبو القاسم القشيري إمام الصوفية في وقته : عزيز من يصدق في الصداقة ، فيكون في الباطن كما هو في الظاهر ، ولا يكون في الوجه كالمرآة ومن ورائك كالمقراض ، وفي معناه ما قلت :

                                                                                                                                                                                                              من لي بمن يثق الفؤاد بوده وإذا ترحل لم يزغ عن عهده     يا بؤس نفسي من أخ لي باذل
                                                                                                                                                                                                              حسن الوفاء بقربه لا بعده     يولي الصفاء بنطقه لا خلقه
                                                                                                                                                                                                              ويدس صابا في حلاوة شهده     فلسانه يبدي جواهر عقده
                                                                                                                                                                                                              وجنانه تغلي مراجل حقده     لاهم إني لا أطيق فراسة
                                                                                                                                                                                                              بك أستعيذ من الحسود وكيده



                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية