الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            ومما وقع في عبارة العلماء من إطلاق ضرب المثل على الاستدلال ، ما وقع في عبارة ابن الصلاح في جزئه الذي ألفه في صلاة الرغائب ، حيث ذكر إنكار الشيخ عز الدين بن عبد السلام لها ، وقال : إنه ضرب له المثل بقوله : ( أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ) .

            وأما الفصل السابع من الشفا الذي قال المعترض : إن المسألة فيه ، فنذكره ؛ ليعلم من علم واقعة الحال أنه غير مطابق لها ، قال القاضي عياض : الوجه السابع : أن يذكر ما يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم ، أو يختلف في جوازه عليه ، وما يطرأ من الأمور البشرية له ، ويمكن إضافتها إليه أو يذكر ما امتحن به وصبر في ذات الله على شدته من مقاساة أعدائه ، وأذاهم له ، ومعرفة ابتداء حاله وسيرته ، وما لقيه من بؤس زمنه ، ومر عليه من معاناة عيشته ، كل ذلك على طريق الرواية ومذاكرة العلم ومعرفة ما صحت عنه العصمة للأنبياء وما يجوز عليهم ، فهذا فن خارج عن [ هذه ] الفنون الستة ، إذ ليس فيه غمض ، ولا نقص ، ولا إزراء ، ولا استخفاف لا في ظاهر اللفظ ولا في مقصد اللافظ ، لكن يجب أن يكون الكلام فيه مع أهل العلم وفهماء طلبة الدين ممن يفهم مقاصده ويحقق فوائده ، ويجنب ذلك من عساه لا يفهمه أو يخشى به فتنته ، فقد كره بعض السلف تعليم النساء سورة يوسف ؛ لما انطوت [ ص: 278 ] عليه من تلك القصص ؛ لضعف معرفتهن ، ونقص عقولهن ، وإدراكهن .

            هذا كلام القاضي في الفصل السابع فانظر كيف فرض المسألة في رواية الحديث ومذاكرة العلم ، ثم لم يطلق ذلك ، بل قيده بأن يكون الكلام فيه مع أهل العلم وفهماء الطلبة ، وهذه الواقعة لم تكن في مذاكرة العلم ، ولم يحضرها طالب علم البتة ، بل كانت في السباب والخصام في سوق الغزل ، بحضرة جمع من التجار والدلالين والسوقة وكلهم عوام ، وأكثرهم سفهاء الألسنة يطلقون ألسنتهم في كثير من الأمور بما يوجب سفك دمائهم ، ولا يعلمون عاقبة ذلك ، فيقال لمن أنكر ما أفتيت به : إن لم تعرف عين الواقعة فأنت معذور ، وقولك : لا تعزير ولا عثرة إن أردت فيما وقع في مجلس الدرس ومذاكرة العلم بين أهله فمسلم ، وليس هو صورة الواقعة ، وإن أردت ما وقع في السوق بالصفة المشروحة فمعاذ الله ، وحاشى المفتين أن يقولوا ذلك .

            وبعد هذا كله فلست أقصد بذلك غضا من القائل ، ولا حطا عليه ، فإني أعتقد دينه ، وخيره ، وصلاحه ، وإنما هي بادرة بدرت وزلة فرطت ، وعثرة وقعت فليستغفر الله منها ويتب إليه ويندم على ما وقع منه ولا يعد ، ولا يقدح ذلك في صلاحه ؛ فإن الشيخ عز الدين بن عبد السلام قال في قواعده : من ظن أن الصغيرة تنقص الولاية فقد جهل ، وقال : إن الولي إذا وقعت منه الصغيرة فإنه لا يجوز للأئمة والحكام تعزيره عليها .

            ونص الشافعي - رضي الله عنه - على أن ذوي الهيئات لا يعزرون للحديث ، وفسرهم بأنهم الذين لا يعرفون بالشر ، فيزل أحدهم الزلة فيترك ، وفسرهم بعض الأصحاب أنهم أصحاب الصغائر دون الكبائر ، وفسرهم بعضهم بأنهم الذين إذا وقع منهم الذنب تابوا وندموا ، والأحاديث الواردة في إقالة ذوي الهيئات عثراتهم كثيرة ، أخرج أحمد في مسنده ، والبخاري في الأدب ، وأبو داود ، والنسائي عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود " ، وأخرجه النسائي من وجه آخر بلفظ : " تجاوزوا عن زلة ذي الهيئة " ، وأخرجه باللفظ الأول الطبراني في الكبير من حديث ابن مسعود ، وابن عدي في الكامل من حديث أنس ، وأخرجه الطبراني في المعجم الصغير من حديث زيد بن ثابت بلفظ : " تجافوا عن عقوبة ذي المروءة إلا في حد من حدود الله " .

            وأخرجه في المعجم الأوسط من حديث ابن عباس بلفظ : " تجافوا عن ذنب السخي فإن الله آخذ بيده كلما عثر " ، وأخرجه بهذا اللفظ [ ص: 279 ] من حديث ابن مسعود الطبراني في الكبير ، وأبو نعيم في الحلية ، وقال الشيخ تقي الدين السبكي في كتابه - طريق المعدلة في قتل من لا وارث له : قول الأصحاب إن من قتل قتيلا لا وارث له فللسلطان الخيرة : بين أن يقتص منه ، أو يعفو عن الدية ، وليس له العفو مجانا ، كأنهم ذكروه على الغالب ، وقد يظهر للإمام من المصلحة ما يقتضي العفو عنه مجانا إذا كان لا مال له ، ولا يقدر على الكسب ، وفيه صلاح وخير ونفع للمسلمين ، ولكن فرطت منه تلك البادرة فقتل بها وظهرت توبته وحسنت طريقته ، فالقول بأن هذا لا يجوز للإمام العفو عنه بعيد ، لا سيما إذا لم يكن بالمسلمين حاجة إلى ذلك القدر الذي يؤخذ منه .

            فالرأي عندي أن يكون ذلك مفوضا إلى رأي الإمام ، والإمام يجب عليه فيما بينه وبين الله أن لا يختار إلا ما فيه مصلحة ظاهرة للمسلمين ، ولا يقدم على سفك دم مسلم بمجرد ما يقال له : إن هذا جائز فجوازه منوط بظهور المصلحة فيه للمسلمين ، ولإقامة الدين لا لحظ نفسه ولا لغرض من أغراض الدنيا ، وحيث شك في ذلك يتعين الكف عن الدم ، وتبقية ذلك الشخص ؛ لأنه نفس معصومة إلا بحقها ، فمتى قتلها من غير مرجح أخشى عليه أن يدخل فيمن قتلها بغير حقها ، انتهى كلام السبكي .

            فإذا جوز السبكي العفو عمن فيه صلاح وخير ونفع للمسلمين من القتل قصاصا مجانا ، بلا دية ، فمن تعزير زلة فرطت منه من باب أولى ، وهذا لا شبهة فيه .

            عود لبدء : قال ابن السبكي في كتابه الترشيح : قال الشافعي - رضي الله عنه - في بعض نصوصه : وقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة لها شرف ، فكلم فيها فقال : " لو سرقت فلانة - لامرأة شريفة - لقطعت يدها " قال ابن السبكي : فانظر إلى قوله " فلانة " ، ولم يبح باسم فاطمة ؛ تأدبا معها - رضي الله عنها - أن يذكرها في هذا المعرض ، وإن كان أبوها صلى الله عليه وسلم قد ذكرها ؛ لأن ذلك منه صلى الله عليه وسلم حسن دال على أن الخلق عنده في الشرع سواء انتهى .

            فهذا من صنع الشافعي ، ثم من تقرير السبكي أصل في هذه المسألة ونقل من حيث مذهبنا ، فقوله : تأدبا يدل على أن ضده خلاف الأدب ، وقوله : لأن ذلك منه صلى الله عليه وسلم حسن يدل على أنه من غيره قبيح ، هذا مع كون الشافعي - رضي الله عنه - إنما ساق الحديث مساق الاحتجاج على المسائل الشرعية ، ومساق تقرير العلم في التصنيف الذي لا يقف عليه إلا أهله ، بل لو صرح بالاسم في مثل هذا المحل لم يكن فيه شيء ، وأمر آخر : أن النقص المذكور واقع في حيز " لو " ، منفي عنها لا مثبت لها ، وإنما ذكر على سبيل الفرض الذي لا سبيل إلى وقوعه ، فكيف يظن بالشافعي أنه يخالف ما قرره المالكية في المسألة التي نحن فيها ؟ [ ص: 280 ] وإنما ذكرت هذا الكلام ؛ لأن قائلا قال : هذا الذي أفتيت به مذهب المالكية ، وليس بمنصوص في مذهبك .

            وكذا يقع لأهل العصر كثيرا ، يدعون علينا في فتاوى كثيرة أنها مخالفة للمذهب ، بمجرد كونها غير منصوصة لا بنفي ولا بإثبات ، كما وقع لنا في العام الماضي حين أفتينا بهدم الدار التي بنيت برسم الفساد ، فادعوا أن ذلك خلاف المذهب بمجرد كون الأصحاب لم ينصوا عليها ، على أن الغزالي وغيره أشاروا إليها كما بيناه في التأليف الذي ألفناه فيها ، ثم نقول في هذه وغيرها : قولهم ما أفتيت به خلاف المذهب ، مستدلين على ذلك بعدم وجود المسألة منصوصا عليها معارض بأنا نقول لهم : ما أفتيتم أنتم به أيضا خلاف المذهب ؛ لأن المسألة غير منصوص عليها ، فكما استندتم إلى العدم في نسبة الخلاف إلي استندت إلى العدم في نسبته إليكم ، فإن الإثبات والنفي كلاهما حكم شرعي ، يحتاج إلى دليل ، أو نقل ، فإن قالوا : أخذناه من القواعد قلت : وأنا أيضا أخذت من القواعد .

            وعلى بيان ذلك لمن يريد الإنصاف ، فمن قال : التعزير في هذه المسألة خلاف المذهب ؛ لأن الأصحاب لم ينصوا عليها ، أقول له : فهل نص الأصحاب على أنه لا تعزير فيها حتى تقدم على القول به ، وتنسبه إلى مذهب الشافعي ؟ وكذلك من قال : القول بهدم الدار الموصوفة بالصفات التي شرحتها في تأليفها خلاف المذهب ؛ لأنه لم ينص عليها ، أقول له : فهل نصوا على أنها لا تهدم حتى استندت إليه ؟ وإذا حصل الاستواء في الجانبين من حيث عدم النص وجدت النقول في المذاهب بأحدهما ، والأدلة ثابتة عليه من الأحاديث والآثار ، وجب الوقوف عنده ، وعدم التجاوز إلى الجانب الآخر إذا لم يكن في قواعد مذهبنا ما يخالفه .

            وقد وقع في فتاوى ابن الصلاح أنه سئل عن مسألة لا نص فيها للأصحاب ، فأفتى فيها بالمنصوص في مذهب أبي حنيفة وبين ذلك ، وقرر النووي في شرح المهذب مسألة لا نقل فيها عندنا ، وأجاب فيها بمذهب الحسن البصري ، وقال : إنه ليس في قواعدنا ما ينفيه ، وسئل البلقيني عن مسألة فقال : لا نقل فيها عندنا ، وأجاب فيها بما ذكره القاضي عياض في المدارك ، وذكر بعض الأصحاب مسألة لا نقل فيها عندنا ، وأفتى فيها بالمنقول في مذهب الحنابلة .

            وذكر الزركشي في " الخادم " مسألة مسح الخف للمحرم ، وقال : لا نقل فيها ، وأجاب بالمنقول في مذهب المالكية في أشياء كثيرة لا تحصى ، وقد استوعبتها في كتابي " الينبوع فيما زاد على الروضة من الفروع " ، ومسألة الهدم نص عليها أئمة المذاهب الثلاثة ، وأشار إليها الغزالي وطائفة ، وثبتت فيها الأحاديث الصحيحة ، والآثار الكثيرة عن عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وابن [ ص: 281 ] مسعود ، وابن الزبير ، وابن عباس ، وعمر بن عبد العزيز ، وغيرهم سلفا وخلفا ، قولا وفعلا ، ولا نص في مذهبنا يخالف ذلك إلا قولهم : إنه لا تعزير بإتلاف المال ، وهذه القاعدة مخصوصة ليست على عمومها بدليل قولهم : إنه لا يكسر آنية الخمر والأواني المثمنة إذا كان فيها صورة إلى غير ذلك ، فعلم أن القاعدة مخصوصة بما لم يتعين إتلافه طريقا لإزالة الفساد ، وتقرير ذلك بإيضاحه يستدعي طولا ، وقد بسطته في التأليف المشار إليه .

            وكذلك نقول في هذه المسألة : قد نص أئمة المالكية على التعزير فيها ، ولم ينص أصحابنا على خلافه ، ولا في قواعد مذهبنا ما ينفيه ، فوجب الوقوف عنده ، والعمل به ، وهذا النص الذي أوردناه عن الشافعي - رضي الله عنه - يصلح أصلا في المسالة ، وتقرير السبكي له وإيضاحه زاده بيانا وحسنا ، وسأتتبع ذلك من نصوص الشافعي والأصحاب في كتبهم في الفقه وشروحهم للحديث ما أراه مقويا لذلك فأذكره .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية